لم يكن سهلاً على آدم أن يتعايش مع الحقيقة التي انكشفت أمامه فجأة. تلك الليلة، حين أغلقت نهى الباب الأخير من الحكاية برسالتها الأخيرة، شعر كأن جزءًا منه قد مات. لكنه في الصباح لم يكن يريد أن يعترف بذلك، فجلس أمام نافذته يتأمل ضوء الشمس الذي كان يبدو باهتًا أكثر من المعتاد، كأنه يواسيه بصمته.
لم يكن الحب هو ما يؤلمه فقط، بل الخديعة، فكرة أن مشاعره كانت صادقة في عالمٍ لم يعرف الصدق. كان يسأل نفسه كل لحظة: “هل كانت تحبني حقًا؟ أم كنتُ وسيلتها للهروب من واقعها؟” لكنه في أعماقه كان يعرف الجواب، ومع ذلك كان يبحث عن تبريرٍ يجعل الألم أخف.مرت أيام وهو يحاول النسيان، لكنه كان يفشل في كل مرة. كل صوت إشعار في هاتفه كان يوقظ في داخله ذكرى قديمة. كان يتجنّب المواقع التي قد تذكّره بها، لكنه لم يستطع أن ينسى نبرة صوتها، ضحكتها الخافتة، طريقتها في كتابة “مساء النور يا آدم” كأنها تُرسل سلامًا من روحها.
بدأ يشعر أن الخداع لا ينتهي حين تنكشف الحقيقة، بل حين يستمر القلب في تصديق الكذبة حتى بعد سقوطها.
في تلك الفترة، قرر أن يبتعد عن كل ما يربطه بالإنترنت. حذف تطبيقات التواصل، وأعاد هاتفه إلى حالته القديمة، فقط للمكالمات الأساسية. أراد أن يعود إلى نفسه، أن يعيد بناء ما تهدّم بداخله.
لكنه حين جلس في وحدته، أدرك أن الصمت أيضًا قد يكون عدوًا. لأن الصمت لا يرحم، بل يذكّرك بكل ما تهرب منه.
في إحدى الليالي، خرج إلى المقهى القريب من بيته، جلس في ركنٍ منعزل يحمل كوب قهوته ويتابع الناس بصمت. لم يكن يريد أن يتحدث مع أحد، لكن الحياة أحيانًا تدفعنا للقاء من لا نتوقع.
جلست أمامه فتاة ترتدي معطفًا رماديًا وتحمل جهاز لابتوب. كانت ملامحها هادئة، وعيناها تائهتان في الشاشة. بعد دقائق، رفعت رأسها وابتسمت بخجل، وقالت: “عذرًا، هل يوجد مقبس كهرباء قريب؟”
أشار إليها بيده نحو الجدار المجاور دون أن يتكلم. لكنها عندما اقتربت لشكرِه، لاحظت شيئًا في عينيه، حزنًا دفينًا، كأنه جرح لم يلتئم.
قالت له: “هل يمكنني الجلوس هنا؟ المقهى مزدحم.”
هز رأسه بالإيجاب دون تردد. جلست وبدأت تعمل بصمت، لكن بين الحين والآخر، كانت تنظر إليه كأنها تراه لأول مرة. بعد لحظات، بادرها قائلًا: “تبدين غارقة في العمل.”
ابتسمت وقالت: “أنا كاتبة محتوى، أعمل على مشروع لموقع جديد، كل شيء الآن يدور حول الإنترنت حتى في المقاهي.”
ضحك آدم بمرارة وقال: “الإنترنت؟ ليتني أستطيع نسيانه.”
سألته بدهشة: “تكرهه إلى هذا الحد؟”
أجابها وهو يحدّق في فنجان قهوته: “هو من منحني أجمل شعور في حياتي، وهو من سرقه مني في الوقت نفسه.”
لم ترد. لكنها أدركت أن وراء كلماته حكاية أكبر من مجرد تجربة عابرة. وبعد لحظات صمت، قالت: “أحيانًا نحن لا نكره الأشياء، بل نكره ما فعلناه بأنفسنا بسببها.”
كانت كلماتها كصفعة ناعمة. لأول مرة منذ مدة، شعر أن أحدًا فهمه دون أن يشرح. سألها: “ما اسمك؟”
قالت: “ريم.”
أومأ مبتسمًا: “اسم بسيط لكنه جميل.”
منذ تلك الليلة، بدأ يلتقي ريم صدفة، أو ربما كان القدر يرتب لهما تلك اللقاءات المتكررة. كانت مختلفة عن نهى في كل شيء، واقعية، صريحة، لا تتحدث كثيرًا لكنها تملك حضورًا دافئًا. كانت تكتب في مواقع مختلفة وتؤمن أن الإنترنت ليس شرًا، بل مرآة لما بداخلنا.
وفي أحد اللقاءات قالت له: “المشكلة ليست في المواقع يا آدم، بل في الطريقة التي نستخدمها بها. بعض الناس يدخلونها ليهربوا من وجعهم، والبعض يدخلونها ليجدوا أنفسهم.”
بدأ يشعر أن كلماتها تعيد بناء شيء في داخله. كان يجد في حديثها راحة لم يعرفها من قبل. لكنها في الوقت نفسه كانت تذكّره بنهى من حيث لا يدري، في طريقتها بالتفكير، في هدوئها، وحتى في نبرة صوتها أحيانًا. كان يخاف أن يقع مرة أخرى في نفس الدائرة.
في إحدى الأمسيات، بينما كانا يتحدثان عن الكتابة والمواقع، سألها: “هل سبق وأحببتِ أحدًا عبر الإنترنت؟”
ضحكت وقالت: “سؤال مباشر جدًا! لكن نعم، أحببتُ شخصًا لم أره أبدًا.”
تجمّد للحظة. كأن الكلمات اخترقت قلبه. سألها بهدوء: “وهل انتهت القصة؟”
قالت: “انتهت عندما اكتشفت أنه لم يكن كما قال، لكنه رغم ذلك غيّرني، جعلني أكتب بطريقة مختلفة، وأفكر بطريقة أعمق.”
شعر أن القدر يسخر منه. هل يمكن أن تكون ريم هي نفسها نهى؟ لكن لا، لا يمكن. نهى قالت إن اسمها الحقيقي مختلف، لكنها لم تقل ما هو. هل يعقل؟ بدأت الشكوك تعود إليه ببطء كأنها جمرٌ قديم اشتعل من جديد.
حاول أن يطرد الفكرة من رأسه، لكن كل تصرف من ريم كان يثير داخله تساؤلات. كانت تعرف بعض الجمل التي قالتها له نهى سابقًا، نفس الأسلوب، نفس الحسّ الأدبي في اختيار الكلمات.
في اليوم التالي، قرر أن يختبرها. أثناء جلوسهما قال لها بابتسامة خفيفة: “هل تؤمنين أن بعض العلاقات تبدأ بكذبة وتنتهي بحقيقة؟”
نظرت إليه طويلاً ثم قالت بهدوء: “أحيانًا نكذب لأننا نخاف أن يُرفض صدقنا.”
تغيّر وجهه فجأة، شعر أن قلبه يوشك على الانفجار. تلك الجملة نفسها قالتها له نهى قبل أشهر.
تلعثم في كلامه، وسألها بصوتٍ مرتجف: “ريم… هل اسمك الحقيقي ريم؟”
توقّفت، حدّقت فيه، ثم نظرت إلى الأسفل. لم تجب.
قال بنبرة حادة: “أجيبيني، هل أنتِ نهى؟”
مرت لحظة صمت طويلة كأن الزمن توقف. ثم رفعت رأسها وقالت: “كنت أتمنى ألا تسأل.”
شعر كأن الهواء انقطع من حوله. لم يصدق أنه أمامها من جديد، بعد كل هذا الوقت، بعد كل هذا الألم.
قال غاضبًا: “لماذا عدتِ؟! ألم تكتفي بما فعلتِ؟”
قالت بصوت مكسور: “لم أعد يا آدم، أنا لم أغادر أصلًا. فقط أردت أن أعرف إن كنت ستكرهني أم ستفهمني.”
أدار وجهه بعيدًا عنها، لا يريد النظر إلى عينيها. كان قلبه يصرخ، لكنه لم يجد الكلمات المناسبة. قالت:
“حين أخبرتك باسمي الحقيقي، ظننت أنك ستكرهني، فابتعدت. لكني لم أستطع نسيانك. جربت أن أبدأ من جديد باسم مختلف، علّني أراك من دون أن تحكم عليّ.”
نظر إليها بمرارة وقال: “أردتِ أن تري ردّ فعلي؟ أم أردتِ أن تلعبي بي مرة أخرى؟”
ردت وهي تبكي: “آدم، كل ما فعلته كان بدافع الخوف. لم أكن أتوقع أن أجد شخصًا يحبني بصدق في عالمٍ كله أقنعة. أنت جعلتني أرى نفسي من جديد.”
لم يعرف ماذا يقول. داخله كان صراعًا بين الغضب والحنين.
قال بعد صمتٍ طويل: “هل كان كل شيء كذبًا؟ اسمك، صورتك، وحتى حبك؟”
قالت وهي ترفع رأسها نحوه: “اسمي كذب، وصورتي كذب، لكن مشاعري كانت حقيقية. كنت أكذب في كل شيء إلا حين أحببتك.”
تلك الجملة كانت كخنجرٍ يجرح ويُداوي في الوقت ذاته. شعر أن قلبه يعجز عن اتخاذ القرار.
وقف وقال: “ربما كان حبك صادقًا، لكن طريقته كانت قاتلة. أنا لم أطلب الكمال، فقط الحقيقة.”
غادرت الدموع عينيها بصمت، وقالت: “كنت أحتاج أن أخسر نفسي كي أتعلم كيف أكون صادقة. وأنت كنت درسي الأصعب.”
تركها ومشى. كانت خطواته ثقيلة كأنها تحمل كل الوجع الذي حاول نسيانه. لم يلتفت خلفه، لكنه سمع صوتها الضعيف تقول:
“سامحني إن استطعت، لا أريد أن أكون ظلًا آخر في ذاكرتك.”
خرج من المقهى والسماء تمطر. وقف تحت المطر بلا مظلة، يشعر أن كل قطرة تمسح شيئًا من وجعه. لم يعد يعرف إن كان يكرهها أم يحبها، لكنه أدرك أن الألم أحيانًا هو الدليل الوحيد على أننا عشِقنا بصدق.
وفي تلك اللحظة، بينما كان يمشي في الشارع الغارق بالمطر، شعر أن قلبه رغم الألم قد تحرر. لأن الخداع انتهى، والحقيقة، مهما كانت موجعة، تبقى أقل قسوة من الوهم.
رفع رأسه نحو السماء وقال:
“ربما كانت الخيانة درسًا، لكنها أيضًا بداية الشفاء.”......
تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.