العصفور الحزين : الجزء الثالث - الرحيل الأخير

Admin
0

كانت شمس الصباح تغمر الغرفة بنورها الذهبي حين فتح سامر عينيه على صوت العصافير وهي تغني قرب نافذته. مرّت أشهر منذ آخر مرة رأى فيها العصفور الأبيض، لكن صوته ظل حاضرًا في ذاكرته، كأنه لم يغب لحظة.

العصفور الحزين : الجزء الثالث - الرحيل الأخير

على الطاولة بجانب السرير، ما زالت الريشة القديمة في مكانها، يلمع بياضها كلما لامسها الضوء، تمامًا كما يلمع الأمل في قلبٍ عرف الحزن طويلاً.

في تلك الفترة تغيّر سامر كثيرًا. صار يرسم لوحاتٍ عن الطيور والسماء والحرية، يعرضها في معارض صغيرة بالمدينة، وكان الناس يجدون في لوحاته شيئًا من السكينة التي فقدوها في زحام الحياة. أصبح وجهه أكثر هدوءًا، وصوته أكثر دفئًا، لكنه في أعماقه كان يعلم أن شيئًا بداخله ما زال ينتظر.

وفي أحد الأيام، جاءه طرد صغير بلا اسم مرسل. فتحه فوجد بداخله قفصًا فارغًا تمامًا، وفيه ريشة بيضاء جديدة تشبه تلك التي احتفظ بها لسنوات، ومعها ورقة مكتوب فيها بخطٍ رقيق:

“كل الأرواح التي تُمنح الحرية، تعود يومًا لمن أحبّها لتودّعه.”

تجمد سامر للحظة، وشعر بقشعريرة تسري في جسده. رفع الريشة الجديدة أمام عينيه، وفجأة سمع الزقزقة ذاتها القادمة من الخارج. خرج مسرعًا إلى الحديقة، وهناك، تحت شجرة الليمون القديمة، وقف العصفور الأبيض على الغصن نفسه الذي كان يجلس عليه أول مرة.

لم يصدق عينيه. اقترب بخطواتٍ بطيئة، وكل لحظة كانت تعني له عمرًا من الانتظار.
قال بصوتٍ مرتعش:
– "أنت عدت فعلاً... كنت أعلم أنك ستعود يوماً."

لكن العصفور لم يتحرك نحوه، فقط نظر إليه طويلاً ثم رفع جناحيه ورفرف بهدوء، كأنه يقول له: لقد حان وقت الوداع الأخير.

جلس سامر تحت الشجرة، وعيناه تراقبانه بصمتٍ يشبه الصلاة. كانت السماء ملبدة بالغيوم، والريح تعبث بالأوراق، والعصفور ما زال يرفرف في الأعلى، يغني بصوتٍ لا يشبه أي صوتٍ سمعه من قبل.
كان اللحن حزينًا لكنه مطمئن، وكأن العصفور يودعه بشكرٍ عميق على الرحلة التي جمعتهما.

قال سامر بصوتٍ مبحوح:
– "أتعلم يا صديقي؟ كنت أظن أنني من أنقذتك، لكن الحقيقة أنك أنت من أنقذتني. أنت من علّمني كيف أعيش رغم الخسارة."

ثم رفع يده نحو السماء كما لو أنه يسلّمه للريح. العصفور طار عاليًا، أعلى مما رآه من قبل، حتى صار نقطة بيضاء صغيرة في الأفق، ثم اختفى بين الغيوم الرمادية.

جلس سامر هناك طويلاً، حتى تساقطت أولى قطرات المطر على وجهه. أغلق عينيه وابتسم، شعر أن شيئًا في داخله قد تحرّر أخيرًا، وأن الحزن الذي حمله لسنوات بدأ يتلاشى، تاركًا وراءه سلامًا يشبه النور.

بعد أسابيع قليلة، افتتح سامر معرضه الجديد بعنوان "أجنحة لا تموت". كانت لوحاته مزيجًا من الضوء والرماد، من الحزن والأمل. في وسط القاعة، عُلّقت لوحة كبيرة لعصفور أبيض يحلق في فضاءٍ من الغيوم، وتحتها كتب بخطٍ صغير:

“بعض الرحيل حرية، وبعض الحرية خلود.”

الناس وقفوا طويلاً أمام اللوحة، وكثيرون منهم شعروا أنهم يرون انعكاس أرواحهم فيها. لم يكن أحد يعرف القصة الحقيقية وراءها، لكن سامر كان يعرف أن تلك اللوحة هي الوداع الأخير بينه وبين روحه القديمة، وبين الإنسان والعصفور اللذين اتحدا يومًا في الألم والشفاء.

وفي مساء الافتتاح، بينما كان يغلق الأبواب بعد انتهاء المعرض، سمع صوت زقزقة خافتة تأتي من فوق المبنى. رفع رأسه، فرأى ظلّ عصفورٍ أبيض يحلّق في ضوء القمر، يدور حول المعرض ثم يختفي في الأفق.

ابتسم سامر وهمس:
– "ها أنت ذا... ما زلت تحلّق فوقي، لتخبرني أن النهاية ليست حزنًا، بل بداية جديدة في مكانٍ آخر."

ثم سار نحو باب الخروج، والريح تلعب بريشته القديمة التي وضعها في جيبه.
لم يكن يعلم أن تلك الريشة ستسقط منه على الرصيف، لتلتقطها طفلة صغيرة كانت تمر مع والدتها، ترفعها إلى السماء وتقول بابتسامة بريئة:
– "انظري يا أمي، ريشة من جناح عصفورٍ سعيد!"

ابتسمت الأم ومضت، والريشة تلمع في يد الطفلة تحت ضوء القمر، وكأنها تواصل حكاية العصفور الحزين الذي لم يعد حزينًا بعد الآن.

العصفور الحزين : الجزء الأول - جناح مكسور 

العصفور الحزين : الجزء الثاني - عودة إلى الضوء

إرسال تعليق

0 تعليقات

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.

إرسال تعليق (0)
3/related/default