في ليلة يغمرها الضباب الكثيف، حيث كانت النجوم تختفي خلف سحب داكنة كأنها تخشى النظر إلى ما سيحدث، كان “سليم” يخطو بخطوات بطيئة بين أطلال معبد قديم نسيه الزمن. كانت عيناه تلمعان بخوفٍ ودهاء، فقد عاش عمره كله لصًّا ماهرًا يعرف كيف يهرب من الموت كما يهرب من الحراس، لكن هذه الليلة لم تكن كسابقاتها. هذه الليلة لم يكن فيها يسعى وراء الذهب، بل وراء الحياة نفسها... حياة ابنته الوحيدة “ليان”.
قبل أسبوع فقط، كانت ليان تلهو أمام كوخهم الصغير في أطراف الغابة، تضحك بصوتٍ يملأ المكان دفئًا. لم يتوقع “سليم” أن تلك الضحكة ستكون آخر ما يسمعه منها قبل أن تختفي في دوامة من الظلال. عندما خرج يبحث عنها، وجد آثار أقدام غريبة ودوائر محفورة على الأرض، وفي وسطها ريش أسود ورياح تدور كأنها تتنفس الشر. وعندما سأل العرافة العجوز في السوق، أخبرته أن من أخذ ابنته ليست بشرية، بل “الساحرة مورنا”، أخطر كائن في الشمال، التي تسرق أرواح الأطفال لتجدد شبابها.
قالت له العرافة:
ـ لن تعيدها لك إلا إذا أعطيتها شيئًا يوازي حياتها. شيئًا لا يمكن الحصول عليه إلا من الموت نفسه.
نظر إليها سليم بعينين ملتهبتين وسألها:
ـ وما الذي يمكن أن يوازي حياة ابنتي؟
قالت بصوتٍ يشبه الهمس:
ـ “تاج فالدران”... التاج الذي يُزين جبهة أعظم محارب مات قبل مئتي عام. لكن احذر يا سليم، فالموت لا يفرّط بما يملكه.
ومنذ تلك الليلة، بدأ رحلته.
كان الطريق إلى قبر “فالدران” يمر عبر غابة “الظلال الساكنة”، التي لا يدخلها أحد ويعود سالمًا. الأشجار فيها متشابكة كالأصابع، تتمايل دون ريح، وأصوات غريبة تأتي من العدم. سحب سليم خنجره الصغير وأشعل مصباحه الزيتي، محاولًا أن يقنع نفسه أن ما يسمعه مجرد أوهام. لكن الظلال على الأرض كانت تتحرك قبل أن يتحرك هو، كأنها تراقبه.
في منتصف الطريق، رأى سليم كائنًا يشبه الإنسان، لكنه أطول، ذو عيون خضراء متوهجة وجلد رمادي باهت. اقترب منه بحذر، وسأله:
ـ من أنت؟
ابتسم الكائن وقال:
ـ أنا حارس الغابة. كل من يدخلها يصبح جزءًا منها.
أجاب سليم بشجاعة مصطنعة:
ـ لا أبحث عن مشاكل، أريد فقط العبور.
ضحك الكائن بصوتٍ يشبه حشرجة الموتى وقال:
ـ لا أحد يعبر دون أن يقدم قربانًا.
سحب سليم قلادة ابنته من جيبه ورفعها:
ـ هذه كل ما أملك... وسأستعيدها قريبًا.
توقف الكائن لحظة، ثم اختفى بين الضباب تاركًا وراءه ريحًا باردة تمر بجانب وجه سليم كلمسة موت. شعر سليم بارتجافٍ داخله لكنه تابع سيره، فكل ما يخشاه أصبح خلفه، والمستقبل لا يهم إن لم تعد ليان.
بعد ساعاتٍ طويلة، وصل إلى وادٍ غارق في السكون. في وسطه تلٌ أسود تعلوه بوابة حجرية منقوشة برموز قديمة. خلف البوابة كان القبر الملكي لفالدران، المحارب الذي تقول الأساطير إنه هزم ألف شيطان في معركة واحدة ثم دفن بتاجه الذي منحه قوة لا تُقهر.
فتح سليم القبو بحذر، وانبعثت منه رائحة ترابٍ قديم ممزوج بالدم والحديد. أضاء مصباحه ورأى نقوشًا تحكي قصة المحارب الأسطوري. وفي نهاية الممر، كان التابوت الحجري الضخم، وعلى سطحه تاج أسود تلمع عليه جواهر حمراء كأنها قطرات دم مجمدة.
اقترب سليم بخطواتٍ بطيئة، وهو يشعر أن الهواء يثقل كلما اقترب. همس لنفسه:
ـ من أجل ليان... فقط من أجلها.
مد يده نحو التاج، لكن ما إن لامسته أطراف أصابعه حتى ارتجف المكان، وبدأت الجدران تهتز. سمع صوتًا غليظًا ينبعث من العدم:
ـ من يجرؤ على لمس تاج فالدران؟
تراجع سليم خطوة، لكنه أجاب بشجاعة مصطنعة:
ـ أنا رجل يبحث عن حياة ابنته، لا عن كنز.
انشق التابوت ببطء، وخرج منه جسد مغطى بدرع صدئ وعينين تشتعلان بلون النار. كان المحارب الميت قد عاد للحياة. رفع سيفه الضخم وقال:
ـ لا أحد يأخذ تاجي ويظل حيًّا.
صرخ سليم:
ـ ابنتي خُطفت! الساحرة مورنا أخذتها! قالت العرافة إن التاج هو السبيل الوحيد!
توقف فالدران للحظة، وصوت الحديد يحتك بالعظام وهو يقترب منه.
ـ مورنا... تلك الساحرة لم تمت بعد؟
ـ لا، إنها تعيش في الجبال الشمالية وتستعبد الأطفال.
ساد صمتٌ غريب، ثم قال المحارب بصوتٍ خافت:
ـ كنت أظن أن موتي أنهى عهدها... إن كانت لا تزال حية، فربما لم يحن وقت راحتي بعد.
خفض سيفه ونظر إلى سليم بعينين مشتعلة بالنار:
ـ خذ التاج، أيها الإنسان، لكن تذكر أن من يحمله يحمل جزءًا من لعنتي. لن تنجو إن استخدمته بخيانة.
مد سليم يده بخوفٍ وأخذ التاج. في اللحظة التي لمسه فيها، شعر بحرارة تسري في عروقه، وكأن النار دخلت قلبه. سمع أصواتًا تهمس في رأسه، وصورًا سريعة لمحاربين وساحات معارك. لكن لم يكن هناك وقت للتفكير، فقد بدأت القاعة تنهار. جرى بأقصى ما يستطيع، يقفز فوق الصخور المتساقطة حتى خرج من البوابة وهو يلهث، بينما سقط القبر خلفه إلى الظلام الأبدي.
لم يتوقف حتى وصل إلى أطراف الغابة، حيث الهواء أصبح خفيفًا والنجوم عادت للظهور. لكنه شعر أن التاج ينبض في يده، وكأنه كائن حي. كل نبضة كانت تزرع في جسده قوة وغضبًا لم يعرفهما من قبل.
تابع رحلته نحو جبل “الظلال العميقة”، حيث تعيش مورنا. الطريق كان محفوفًا بالمخلوقات التي لا تنتمي إلى هذا العالم. رأى ذئابًا بعيون بشرية، وأشجارًا تتحرك كأنها تتنفس، وحتى نهرًا من دماءٍ سوداء يقطع الطريق. ومع كل خطر، كان التاج يضيء بلونٍ أحمر، وكأن قوته تحميه. لكنه كلما استخدمه، كان يشعر بجزءٍ من روحه يتلاشى.
بعد ثلاثة أيام من السير، وصل إلى قصر مورنا. كان بناءً أسود ضخمًا فوق قمة الجبل، تتصاعد منه سحبٌ خضراء ووميض برقٍ أزرق يقطع السماء. تسلل بين الصخور حتى وصل إلى البوابة الحديدية. سمع صدى ضحكة نسائية تملأ المكان:
ـ لقد ظننت أنك ستموت في القبر، يا لصّ البشر.
كانت مورنا تقف أمامه، جميلة كأنها من ضوء، لكنها بعينين خاليتين من الرحمة. شعر سليم بأن الهواء حوله يثقل، وأن جسده يريد الركوع، لكن التاج أضاء مجددًا وحرره من تأثيرها.
قال لها:
ـ أريد ابنتي!
ضحكت الساحرة وقالت:
ـ وأنت تظن أني سأعيدها؟ لقد أصبحت جزءًا مني.
رفع التاج فوق رأسه، وفجأة انطلقت منه هالة حمراء قوية هزت القصر بأكمله. ظهرت خلف مورنا مخلوقات غريبة، نصفها ظل ونصفها نار، تحاول منعه، لكنها احترقت عندما اقتربت من الضوء الخارج من التاج.
صرخت الساحرة:
ـ هذا التاج ملك للموت! لن تستطيع السيطرة عليه!
رد سليم والغضب يشتعل في عينيه:
ـ الموت يعرفني منذ زمن، لكنه لم يأخذني بعد!
اندلع بينهما صراع رهيب. مورنا أطلقت العواصف والظلال لتلتهمه، بينما التاج يحميه بنورٍ دموي. كل لحظة كان فيها يستخدم قوته كان يشعر أن عمره يقصر، لكن رؤيته لوجه ابنته في خياله جعلته يواصل القتال. في النهاية، جمع كل طاقته وصاح:
ـ من أجل ليان!
وانفجر التاج بوميضٍ أحمر عظيم غطى القصر كله.
عندما استيقظ، كان ملقىً على الأرض، والتاج قد تفتت إلى رماد. أمامه كانت ليان الصغيرة تنظر إليه بعينيها الواسعتين.
ـ أبي؟
ضحك وهو يبكي، ضمها إلى صدره بقوة وقال:
ـ عدتِ إليّ يا ملاكي.
لكن خلفهما، على جدار القصر، ظهرت صورة ظلٍ يشبه فالدران، يبتسم بهدوء قبل أن يتلاشى في الهواء. فهم سليم عندها أن المحارب الأسطوري قد وجد راحته أخيرًا.
عاد سليم إلى كوخه الصغير، ومعه ليان، لكنه لم يعد الرجل نفسه. كان يشعر أن جزءًا من روح فالدران يسكنه، يسمع صوته أحيانًا في الأحلام، يحذره من أن قوى الظلام لا تموت أبدًا.
وفي ليلةٍ ممطرة، سمع طرقًا على الباب. فتحه ليجد طائرًا أسود يقف على العتبة، وفي منقاره ريشة خضراء تشبه تلك التي رآها يوم اختطاف ليان. رفع نظره إلى السماء فرأى دوامة من الغيوم تتشكل، وسمع الهمس القديم من جديد.
علم حينها أن السلام لم يدم، وأن قصة التاج لم تنتهِ بعد... بل بدأت للتو.


تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.