مرت أسابيع على رحيل العصفور، وسامر ما زال يحتفظ بالريشة البيضاء في صندوق خشبي صغير على مكتبه. كلما نظر إليها شعر أن قلبه يشتعل بحنينٍ غريب، حنين لا يعرف إن كان موجَّهًا للطائر أم لشيء أعمق في داخله.
كان يحاول أن يعيش حياته كالمعتاد، يذهب إلى عمله، يعود إلى غرفته الصغيرة، يقرأ قليلًا، ثم يطفئ الأنوار ويجلس في العتمة يستمع لصوت الرياح وهي تلامس زجاج النافذة. لكن داخله لم يكن كما كان، شيء ما تغيّر، وكأن رحيل العصفور ترك فيه فجوة لم يملأها شيء.
ذات مساء، وبينما كان عائدًا من عمله، سمع زقزقة مألوفة قادمة من حديقة المنزل القديم المجاور. توقف لحظة، قلبه بدأ يخفق بقوة. دخل بخطوات مترددة، كانت الحديقة مهجورة، تغطيها الأعشاب الطويلة، وتتعانق الأغصان في صمتٍ موحش. وفجأة، من بين الأغصان، ظهر عصفور صغير له نفس الريش الأبيض ونفس النظرة.
اقترب ببطء وهمس وكأنه يخاطب صديقًا ضائعًا:
– "أيمكن أن تكون أنت؟"
لكن العصفور لم يتحرك، فقط نظر إليه بفضول، ثم طار إلى غصنٍ أعلى، وكأنه يدعوه ليتبعه. تبعه سامر بخطواتٍ بطيئة، حتى وصل إلى الشجرة نفسها التي كان يراها من نافذته منذ سنوات. كانت شجرة الليمون التي زرعتها أمه، ما تزال واقفة شامخة رغم قسوة المواسم.
جلس سامر تحتها، والعصفور يقف فوق غصنها الأعلى، يغني لحناً غريباً حزيناً لكنه دافئ. شعر وقتها أن صوته لا يشبه أصوات العصافير الأخرى، كأنه يحمل ذكريات من زمنٍ بعيد، من عالمٍ آخر.
رفع سامر رأسه وقال:
– "لقد عدت، أليس كذلك؟ كنت أعلم أنك ستعود يوماً، فالقصص التي تبدأ بالألم لا تنتهي بسهولة."
لكن هذه المرة لم يكن العصفور جريحاً، كان حراً تماماً، يحلق بين الأغصان بخفة، يلامس أوراق الشجرة وكأنه يحييها من سباتها. وكلما طار بعيداً، كان يعود ويقف أمام سامر، ينظر إليه للحظة ثم يرفرف بجناحيه كمن يطلب منه شيئاً.
شعر سامر أن العصفور يريد منه أن يفهم شيئاً خفياً، شيئاً لم يفهمه من قبل.
جلس بصمت، والنسيم يمرّ على وجهه، وذاكرته تعود به إلى الأيام التي قضياها معاً. تذكّر حين كان يعالجه، حين كان يتحدث إليه كأنه إنسان، حين بكى يوم رحيله. عندها أدرك فجأة أن العصفور لم يكن مجرد كائن عابر في حياته، بل كان رمزًا لحريته التي كبَتَها خوفًا من الفقد.
نهض من مكانه وقال بصوتٍ هادئ:
– "ربما حان دوري الآن لأتعلم الطيران، بطريقتي أنا."
في تلك الليلة عاد سامر إلى غرفته، فتح النافذة للمرة الأولى دون خوف. كانت الريشة البيضاء لا تزال هناك، فوضعها في راحة يده وقال:
– "علّمتني كيف أحرر نفسي من قيودي، كيف أترك ما يؤلمني دون أن أنساه. كنت رسولي من السماء، أليس كذلك؟"
منذ تلك الليلة تغيّر كل شيء. بدأ سامر يرسم لوحات للعصفور، وأحيانًا يكتب رسائل له، كما لو أنه ما زال يسمعه. ومع مرور الوقت، أصبح أكثر انفتاحًا على الحياة، يبتسم أكثر، ويتحدث مع الناس، ويذهب إلى الأماكن التي كان يخشاها.
لكن شيئًا غريبًا حدث بعد أسابيع قليلة.
في أحد الأيام، بينما كان يرسم لوحة جديدة للعصفور وهو يحلق في سماءٍ وردية، طرق أحدهم باب شقته. فتح الباب فوجد فتاة في منتصف العشرينات تحمل قفصًا صغيرًا فيه عصفور أبيض يشبه تمامًا عصفوره القديم.
قالت له بابتسامةٍ خجولة:
– "وجدته مصابًا في الطريق، وسألت في الجوار فقالوا إنك تهتم بالعصافير الجريحة. هل يمكنك مساعدته؟"
تجمد سامر للحظة، لم يعرف ماذا يقول. نظر إلى العصفور، كان يرفرف بخفة رغم ألمه، ونظره ثابت عليه، كأنه يعرفه منذ زمن بعيد. أخذ القفص منها وقال بهدوء:
– "نعم، سأعتني به."
دخل إلى غرفته، وضع القفص قرب النافذة ذاتها، تلك التي شهدت قصة البدايات والنهايات. جلس بجانبه طويلاً، والفتاة بقيت واقفة تراقبه بصمت، حتى قالت فجأة:
– "الغريب أنه لم يهدأ إلا عندما رآك، كأنه يعرفك مسبقًا."
ابتسم سامر ابتسامة غامضة وقال:
– "ربما يعرف أكثر مما نعرف نحن."
في الأيام التالية، كانت الفتاة تزوره لتطمئن على العصفور، وكانت الأحاديث بينهما تزداد دفئًا. أحس سامر أن الحياة تمنحه فرصة جديدة، وأن هذا اللقاء لم يكن مصادفة. كان يشعر أن العصفور عاد ليقوده نحو نورٍ جديد، نحو إنسانٍ آخر يمكن أن يفهمه كما فهمه العصفور يومًا.
وفي إحدى الليالي، بينما كانت الفتاة تودعه، سمعا معًا زقزقة قوية، فرأيا العصفور يطير داخل الغرفة بعد أن شُفي تمامًا، ثم يقف على كتف سامر للحظة، قبل أن ينتقل إلى كتفها هي. تبادلا نظرةً طويلة، وكأن الطائر اختار أن يربط بين روحين تبحثان عن الشفاء ذاته.
قال سامر بصوتٍ مبحوح:
– "يبدو أنه لم يعد عصفورًا حزينًا بعد الآن."
ابتسمت الفتاة وقالت:
– "ولا أنت."
ثم طار العصفور من بينهما، خرج من النافذة المفتوحة إلى السماء المضيئة بنور الفجر. وقف الاثنان يراقبانه في صمت، وكل منهما يشعر أن شيئًا داخله قد عاد إلى الحياة من جديد.
في تلك اللحظة، فهم سامر أن العصفور لم يكن مجرد طائر، بل كان رسالة، دورة حياةٍ بين الفقد والشفاء، بين الحزن والضوء. وأن الحرية لا تأتي حين نترك من نحب، بل حين نتعلم كيف نحب دون خوفٍ من الرحيل.
وبينما انبثق الضوء الأول للفجر، همس سامر لنفسه:
– "لقد عدت يا عصفوري... عدت إلى الضوء."....
تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.