في ليلةٍ من ليالي الشتاء الباردة، كانت السماء ملبدة بالغيوم، والرعد يدوّي كأنه نذير لشيءٍ غامض على وشك الحدوث. في أطراف مدينة “أرمانا”، حيث الجبال تعانق السحب والضباب يلف الطرقات، كان يعيش شاب يُدعى آدم، في منزل صغير ورثه عن جده العالم الراحل “الدكتور إلياس”، الذي كان عالماً فيزياءً غريب الأطوار، يعتقد بأن الزمن ليس مجرد خط مستقيم، بل دوائر متشابكة يمكن التنقل بينها.
منذ وفاة جده قبل خمس سنوات، كان آدم يجد في قبو المنزل مكتبة ضخمة مليئة بالكتب القديمة والمخطوطات الغامضة، وأجهزة عجيبة لا يعرف الغرض منها. لكن أكثر ما شدّ انتباهه هو باب معدني غريب الشكل في نهاية القبو، عليه نقوش بلغة لا تشبه أي لغة بشرية، وكُتبت عليه عبارة: "من يعبر، لا يعود كما كان."
كان جده قد حذّره في وصيته من لمس ذلك الباب، قائلاً له: “يا بني، بعض الأبواب لا تُفتح بالفضول، بل بالحكمة.”
لكن تلك الكلمات لم تمنع آدم من التفكير في الأمر كل ليلة، حتى أصبح الحلم بالعبور من ذلك الباب هوسًا يطارده.
لم يشعر آدم إلا بأن الأرض تهتز تحته، والهواء من حوله صار أثقل، ثم سُحب بقوة داخل دوامة من الضوء والظلال. عندما فتح عينيه، وجد نفسه في مكانٍ مختلف تمامًا — أرضٌ غريبة يغمرها وهج ذهبي، والسماء بلون بنفسجي غريب، وفي الأفق ترتفع أبراج ضخمة تشبه البلور.
كان المكان خاليًا من أي بشر، لكنه لم يكن ميتًا. الأشجار تتوهج بالضوء، والأنهار تلمع كأنها مصنوعة من الزئبق. أدرك آدم أنه عبر إلى عالمٍ آخر.
تقدّم بخطواتٍ حذرة حتى لمح من بعيد تمثالاً ضخمًا لإنسانٍ له أجنحة حجرية، وعلى قاعدته نُقشت نفس الرموز التي كانت على باب القبو.
اقترب وقرأ بعض النقوش بمساعدة دفتر جده الذي كان يحمله معه دائمًا. ترجمها بصعوبة:
“هذه هي أرمانا القديمة، المدينة التي اختفت من وجه الأرض منذ ألف عام، حيث اختبأ الزمن نفسه.”
"أنت لست من هنا... لقد اخترقت الحاجز الزمني، أليس كذلك؟"
تردد آدم قبل أن يجيب: "أنا لا أعرف كيف حدث هذا، وجدت نفسي هنا بعد أن فتحت بوابة غريبة."
ابتسمت الفتاة قائلة: "إذن أنت من عالم السطح، من زمن ما بعد الانهيار."
عرّفت نفسها باسم "إيلارا"، وقالت إنها من سلالة الحُراس، قومٌ مهمتهم حماية البوابة بين العوالم. ثم قادته إلى قصرٍ زجاجي مهيب في وسط المدينة. هناك، استقبله العرّاف الأكبر، رجل طاعن في السن، له عينان تلمعان كنجمتين.
قال العراف: "لقد تنبأت كتبنا بقدومك منذ قرون، يا ابن إلياس. جدك لم يكن مجرد عالم، بل كان أحد حُراس الزمن الذين فشلوا في إغلاق البوابة في عصرهم."
شعر آدم بالذهول. جدّه كان عالمًا فيزيائيًا مهووسًا بالزمن، لكنه لم يتخيل أنه كان جزءًا من شيءٍ أكبر من العلم نفسه.
سأله آدم: "وما الذي حدث للمدينة؟ ولماذا اختفت من التاريخ؟"
أجابه العرّاف: "في زمنٍ بعيد، استخدم البشر قوة البوابة للتحكم في الزمن، لكن الطمع دمّر توازنها. انفجر المحور الزمني، وغُمرت أرمانا في حلقة زمنية أبدية، لا تتقدم ولا تتراجع. نحن نعيش اليوم نفسه منذ ألف سنة، حتى يأتي من يحمل دم الحارس الأخير ليكسر الحلقة."
تردّد آدم كثيرًا، لكنه نظر إلى السماء وقال: "ربما هذا هو قدري. لا يمكن للزمن أن يُسجن إلى الأبد."
رافقته إيلارا إلى قلب المدينة حيث تقف “الساعة الكبرى” — بناء عملاق يُقال إنه قلب البوابة. كانت الساعة معلقة بين برجين من الكريستال، ويدور عقربها في عكس الاتجاه.
قالت له إيلارا: "بمجرد أن تدير العقرب في الاتجاه الصحيح، ستبدأ دورة الزمن من جديد. لكن احذر، فالقوة ستختبرك، وستريك أكثر ما تخاف فقدانه."
لكن صوت إيلارا اخترق العاصفة قائلًا: "تذكّر، لا تحارب الماضي، بل حرره."
بكل قوته، دار بالعقرب في الاتجاه الصحيح، وانفجرت الساعة بضوءٍ مذهل ملأ الأفق. سقط على الأرض وهو يشعر أن جسده يتفتت بين العوالم. آخر ما رآه كان إيلارا تبتسم له قائلة: "شكراً لأنك أعدت لنا الزمن."
استيقظ آدم فجأة في القبو. الباب المعدني مفتوح قليلاً، والهواء ساكن. اعتقد للحظة أن كل ما حدث كان حلمًا، لكنه عندما نظر إلى يده وجد عليها قلادة فضية تحمل نفس رمز المدينة القديمة.
فتح دفتر جده مرة أخرى، ووجد فيه ورقة لم يرها من قبل كتب عليها بخط جده:
“إن عدت يومًا من البوابة، فاعلم أنك أتممت ما لم أستطع إتمامه. لكن تذكّر، الزمن لا يُغلق، بل يُعاد خلقه.”
خرج آدم من القبو إلى ضوء الصباح. كانت القرية تبدو أكثر إشراقًا من أي وقت مضى. وبينما يسير في الطريق، لمح فتاة من بعيد ترتدي ثوبًا فضيًا وتنظر إليه بابتسامة خفيفة، ثم اختفت كأنها لم تكن هناك.
مرت السنوات، وذاع صيت آدم كأحد أبرز العلماء في أبحاث الزمن. لكن في قلبه ظلّ يحتفظ بسرّ المدينة المفقودة.
وفي إحدى الليالي، بينما كان يكتب في دفتره الجديد، سمع من القبو ذلك الصوت القديم — خفيفًا، لكنه مألوف.
نزل ببطء، والباب المعدني بدأ يصدر ضوءًا أزرق مرة أخرى. ابتسم هذه المرة وقال لنفسه:
"يبدو أن الزمن لم ينته بعد..."
ثم اختفى في ومضةٍ من النور، لتبدأ دورة جديدة من الحكاية.


تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.