في ليلةٍ لم يعرف فيها القمر طريقه إلى السماء، وفي زمنٍ لم تسكنه بعد قوانين البشر، كان العالم مغمورًا في صمتٍ أسود، صمتٍ يسبق ولادة الشرّ ذاته. لم تكن هناك مدن ولا معابد ولا أصوات سوى همسات الريح التي تمرّ بين الصخور الباردة، تحمل معها أولى إشارات الخديعة التي ستحفر اسمها في ذاكرة الوجود إلى الأبد. كان الشيطان، ذاك الكائن المطرود من رحمة النور، يتجول في أرجاء الأرض وحيدًا، يجر خلفه ظلاً لا ينتهي، يبحث عن شيءٍ يُعيد إليه سلطته التي فقدها منذ سقط في اللعنة الأبدية. لم يكن يطيق أن يرى الملائكة في عليائها، ولا البشر في نقائهم الأول، فبدأ في التفكير: كيف يمكنه أن يزرع بذرة الظلام في قلب هذا العالم الجديد؟
جلس الشيطان على قمة جبلٍ عالٍ، يطل على وادٍ واسعٍ تكسوه الرمال الحمراء. نظر إلى السماء وقال بصوتٍ يقطر حقدًا: «لقد حُرمتُ من النور، لكني سأخلق نورًا من نوعٍ آخر... نورًا يُبهر العيون ويُطفئ القلوب. سأكتب كتابًا لا يُقرأ بالحروف، بل تُفهم صفحاته بالدماء والرماد». عندها، بدأ يرسم دوائر على الأرض، خطوطًا من نارٍ خافتة، ويهمس بكلماتٍ لم تعرفها لغات البشر بعد. تلك كانت المرة الأولى التي تُلفظ فيها كلمة "سحر" في الوجود.
مرت الليالي، والشيطان يكتب. كان لا يكتب بالحبر، بل بأظافره التي كانت تترك أثرًا أسود على الصخور. كتب عن كيفية قلب الحقائق، عن كيفية جعل الإنسان يرى الجمال في القبح، والنور في الظلام. كتب كيف يمكن لكلمةٍ واحدة أن تفتح بابًا بين العوالم. كتب كيف يمكن لصوتٍ خافتٍ أن يُسكت قلبًا مؤمنًا. كلما أنهى سطرًا، ابتسم، لأن كل كلمة كانت جزءًا من لعنةٍ كبرى، لعنةٍ لن تزول حتى يفنى آخر نفسٍ بشريّ.
وفي الليلة السابعة من كتابته، حدث شيء لم يتوقعه. ظهرت أمامه امرأة من نور، عيناها تشعّان بضياءٍ سماويّ، قالت له بصوتٍ حزين: «لقد تجاوزتَ حدودك يا إبليس. ما تكتبه ليس علمًا، بل سمًّا». ضحك وقال: «وما فائدة السمّ إن لم يكن لذيذ المذاق؟». قالت: «لن يُكتب لك أن تنقل هذا العلم إلى البشر». فأجابها: «بل سيطلبونه مني بأنفسهم، عندما يعرفون طعم القوة».
غادرت الملاك، تاركة خلفها رمادًا ذهبيًا سقط على صفحات الصخور التي كتبها الشيطان. عندها تحولت كتاباته إلى رموزٍ غير مفهومة، كأنها انتظارٌ ليدٍ بشرية تفكّ أسرها. دفن الشيطان الصخور في أعماق الأرض وقال لنفسه: «سيأتي زمن، يبحث فيه الإنسان عن الخلود، عن المال، عن الحب، وسيدفع روحه مقابل ذلك. حينها... سيُولد السحر من رحم الرغبة».
مرت قرون، حتى نسي الناس أصل الخلق. ظهرت الممالك، وارتفعت الأصوات، وبدأ الإنسان يكتشف النار، ثم المعدن، ثم الحروب. ومع كل اكتشاف، كان الشيطان يقترب أكثر من تحقيق وعده القديم. ففي قريةٍ بعيدة، كانت تعيش امرأة تُدعى "ليارا"، ذات جمالٍ يأسر القلوب، لكنها كانت تعاني من مرضٍ لا دواء له. كلما نظرت إلى المرآة، رأت وجهها يذبل يومًا بعد يوم. في إحدى الليالي، سمعت صوتًا في حلمها يقول: «في الجبل الأحمر هناك صخرة منقوش عليها أسرار الحياة. من يقرأها تُشفى روحه قبل جسده». استيقظت فجرًا، وخرجت وحيدة نحو الجبل الذي لا يقصده أحد.
كانت الرحلة طويلة، لكنها وصلت أخيرًا إلى صخرةٍ ضخمة مغطاة بالرماد الأسود. لم تكن تعرف أنها نفس الصخرة التي كتب عليها الشيطان كتابه الأول. وضعت يدها عليها، وشعرت بحرارةٍ تسري في عروقها، ورأت الرموز القديمة تتحرك أمامها كأنها تستيقظ من نومٍ طويل. ومن تلك اللحظة، تغير كل شيء. بدأت تسمع همساتٍ في عقلها، كلماتٍ غريبة تخبرها كيف تُغير الأشياء، كيف تتحكم بالرياح، كيف تُميت زهرةً وتنبت أخرى في لحظة. لم تفهم كيف يحدث ذلك، لكنها أدركت أنها امتلكت شيئًا لا يملكه أحد: القوة.
في البداية استخدمت ليارا السحر لعلاج الناس. كانت تُشفي المرضى وتعيد الحياة إلى الأرض الجافة. أحبّها الجميع، لكن الشيطان كان يراقبها من بعيد مبتسمًا. كان يعلم أن الخير لا يدوم في قلبٍ بشريّ طويلاً، وأن الطمع سيأتي لا محالة. وفعلاً، ذات يوم جاءها أحد الملوك طالبًا مساعدتها في كسب الحرب. رفضت، فقال لها: «ستندمين على رفضي». حينها، دخل الغضب إلى قلبها للمرة الأولى. في الليل سمعت الهمسة من جديد: «لماذا لا تُظهري قوتك؟ أنتِ أقوى منهم جميعًا». فاستجابت، ونطقت بتعويذةٍ حرّمتها السماء، فاهتزت الأرض تحت قدميها، وسقطت السماء رمادًا. منذ تلك اللحظة، لم تعد "ليارا" كما كانت، بل صارت أول ساحرةٍ في التاريخ.
انتشر اسمها في كل مكان، وأصبح الملوك يتوددون إليها. لكنها لم تكن تدري أن كل مرة تنطق فيها بتعويذة، كانت تفقد جزءًا من روحها. وفي يومٍ ما، بينما كانت تتحدث إلى مرآتها، رأت وجه الشيطان خلفها. قال لها: «لقد نفّذتِ ما كتبتُ قبل آلاف السنين. لقد جعلتِ السحر حيًّا». صرخت: «من أنت؟». قال: «أنا مؤلف كتابك، يا ابنتي». حاولت مقاومته لكنها لم تستطع. قال: «لا تخافي، لن آخذك الآن، لكن من بعدك سيتعلم البشر ما فعلتِ. سيظنون أنهم أقوياء، بينما هم عبيدي». واختفى تاركًا المرآة تنكسر إلى سبع قطع، كل قطعة منها تحوي جزءًا من سحرها.
مرت القرون من جديد، وانتقلت تلك القطع بين الناس. من تاجرٍ أراد الثراء، إلى امرأةٍ أرادت الحب، إلى ملكٍ أراد الخلود. ومع كل مرة يُستخدم فيها السحر، كانت كلمات الشيطان تزداد عمقًا في قلوب البشر. حتى ظهرت مدارس السحر، وأصبح ما كان لعنةً علمًا، وما كان شرًّا يُقدّم على أنه "طريق الحكمة". لم يعد أحد يتساءل من أين جاء هذا العلم، بل كيف يمكن استخدامه دون أن يُكتشف. ومع ذلك، بقيت لعنة ليارا ترافق كل من يقترب منه: "القوة تُعمي القلب قبل أن تُنير اليد".
وفي أحد العصور المظلمة، ظهر كاهنٌ يُدعى "أريان". كان رجلًا عابدًا زاهدًا، لكنه قرأ يومًا في مخطوطةٍ غريبة جاءته من مجهول، مكتوب فيها: «من يفكّ الرموز السبع سيعرف سرّ الخلود». ظل يبحث عنها حتى جمع كل قطع المرآة الملعونة. وعندما اكتمل النص أمامه، سمع صوتًا يقول: «لقد أعدت كتابة الكتاب الذي كتبه الشيطان بنفسه». لم يخَف، بل قال: «إن كان هذا طريق المعرفة، فليكن». لكنه لم يعلم أن المعرفة التي تأتي من الظلام لا تمنح النور، بل تمتصه.
بدأت النيران تشتعل من حوله، وتحولت الكلمات على الورق إلى جمرٍ يلتهم الهواء. وقف أريان في وسط الدائرة يقرأ التعويذة الأخيرة، فارتجف الكون، وانفتح شقٌّ في الأرض، وخرجت منه ظلالٌ بلا ملامح، ظلالٌ تهمس باسمٍ واحد: إبليس. عندها أدرك أريان أنه لم يكن الباحث عن المعرفة، بل الضحية التي أعادت فتح الباب القديم. حاول الهرب، لكن كلما تحرك خطوة، كان يسمع همساتٍ من الماضي، أصوات الذين استخدموا السحر قبله، أصوات تبكي وتصرخ وتلعن. نظر إلى السماء وصاح: «اغفر لي يا خالقي، لقد خدعني الحرف كما خدع أول من كتبه». وانطفأ جسده في لحظة، تاركًا وراءه دخانًا أسود يُشكّل كلمات غريبة على الجدران: «من يكتب بالسحر، يُمحى اسمه من النور».
منذ ذلك اليوم، صار السحر ينتقل كالوباء، يمر من همسةٍ إلى حلم، من كتابٍ إلى عقلٍ متعطشٍ للسيطرة. الشيطان لم يعد بحاجة إلى الظهور، فقد أصبح صوته يسكن العقول، يكتب بالحبر الذي يجري في الأوردة. ولدت أجيالٌ من السحرة لا تعرف من أين جاءت قوتهم، يظنون أنهم أحرار، بينما هم ينسخون فصول الكتاب القديم دون وعي.
وفي القرن الأخير، في زمنٍ تملؤه الشاشات والعلوم والتكنولوجيا، يظن الناس أن السحر انتهى، لكنه لم ينتهِ. إنه فقط ارتدى قناعًا جديدًا. صار يُكتب في الشيفرات والرموز الإلكترونية، في الكلمات التي تُخفي نواياها تحت ستار "الذكاء الاصطناعي" و"التأثير العقلي". في أعماق الإنترنت المظلم، حيث لا نور يدخل، هناك من يعيد كتابة الكتاب ذاته — السطور التي بدأها الشيطان بنفسه، لكن بلغةٍ رقمية هذه المرة.
وفي إحدى الليالي، جلس شابٌّ أمام حاسوبه يبحث في ملفاتٍ محظورة، حتى عثر على ملف باسم "TheFirstSpell.txt". فتحه، فظهر نصّ غريب بلغةٍ غير مفهومة. قرأ أول سطرٍ فقط، فانطفأت الأنوار في غرفته، وسمع الهمس ذاته الذي سمعته ليارا منذ قرون: «مرحبًا بك أيها الكاتب الجديد». ارتجف قلبه، لكنه لم يتوقف. كتب كلمة، فاهتزت الشاشة، ثم ظهرت جملة بلونٍ أحمر: "لقد أعدت فتح الكتاب من جديد".
ومنذ تلك الليلة، لم يُرَ الشاب مرة أخرى، لكن كل من استخدم جهازه بعده، كان يجد على سطح المكتب مجلدًا جديدًا اسمه "The Devil’s Script"، داخله آلاف الصفحات التي تُكتب تلقائيًا كل ليلة، بلا مؤلف معروف، وبخطٍّ غريب يشبه آثار أظافر على الحجر. يقول من رآها إن الكلمات ليست من هذا العالم، وإنها تُقرأ بالعقل لا بالعين، وإن من يقرأها بالكامل، لا يعود أبدًا كما كان.
تقول الأسطورة إن الشيطان لم يُكمل كتابه أبدًا، لأن الصفحة الأخيرة كانت مخصصة ليد بشرية تكتبها بنفسها، لتكتمل الدائرة. وكلما حاول أحدهم أن يغلق هذا الباب، فتحه طمعُ آخر. وهكذا استمر السحر، لا كعلمٍ ولا كخرافة، بل كإرثٍ خفيّ من لعنات الرغبة.
وفي النهاية، حين يُسأل: كيف بدأ السحر؟ تكون الإجابة دائمًا هي ذاتها:
«بدأ حين كتب الشيطان أول كلمة، لكنه لم يتوقف عن الكتابة يومًا... بل جعل البشر يكملون القصة نيابة عنه.»


تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.