كانت السماء رمادية ذلك الصباح، حين فتح سامر النافذة الصغيرة في غرفته المطلة على الحديقة. لم يكن يحب الصباحات الرمادية، لأنها تذكره بأيام الوحدة التي عاشها بعد رحيل والدته. جلس على حافة السرير يتأمل شجرة الليمون التي زرعتها والدته قبل سنوات، وكانت أوراقها تتمايل بخفة مع نسمات باردة تحمل شيئًا من الحزن.
وبينما كان يسرح بنظره نحو الفراغ، سمع صوت ارتطام خفيف على زجاج النافذة. اقترب ببطء، فرأى عصفورًا صغيرًا يرتجف، أحد جناحيه مكسور والآخر يحاول الحركة عبثًا. فتح سامر النافذة بحذر، مد يده، فوقع العصفور على كفه كمن استسلم للتعب.
جلس على الأرض، ووضع العصفور في قطعة قماش دافئة، وبدأ يراقبه بصمت. كان يشعر أن هذا الكائن الصغير يحمل شيئًا من روحه، شيئًا من انكساره الذي لم يستطع البوح به لأحد. كان العصفور ينظر إليه بعينين لامعتين، كأنهما تقولان: أنا أفهمك.
أحضر سامر قليلًا من الماء وبعض الحبوب التي احتفظ بها للطيور التي تزور شرفته أحيانًا، وبدأ يعتني بالعصفور كما لو أنه وجد فيه شيئًا يستحق الحياة من أجله. مرّت الأيام، وبدأ الجناح المكسور يتعافى ببطء، لكن الحزن لم يفارق عيني العصفور.
ذات مساء، جلس سامر بجانبه وقال بصوتٍ خافت:
– "أتعلم؟ كنت أظن أني وحدي من يشعر بالضياع. لكن يبدو أننا متشابهان أكثر مما توقعت."
لم يدرِ لماذا تحدث إليه كإنسان، لكنه وجد راحة غريبة في ذلك. كلما تحدّث إليه شعر أن قلبه يخفّ، وأن الجرح القديم بدا يلتئم قليلًا.
وفي كل مرة كان يقترب فيها من النافذة، كان العصفور يلتفت إليه، كأنه ينتظر منه إذنًا بالطيران، لكن سامر كان يخاف من تلك اللحظة. لم يكن يريد أن يخسره كما خسر كل من أحبهم. كان يخشى الحرية التي تسرق منه كل شيء جميل.
في إحدى الليالي، حلم سامر بالعصفور يطير في فضاء واسع مضيء، يغني بصوتٍ لم يسمع مثله من قبل، لكن فجأة ظهر ظل أسود ضخم حاول الإمساك به. استيقظ مذعورًا، فوجد العصفور مستيقظًا أيضًا، يرفرف بخفة وكأنه يشعر بما رآه في الحلم.
اقترب سامر وقال له مبتسمًا رغم الخوف:
– "لن أدع الظلّ يقترب منك. ستشفى وتطير متى أردت، لكن ليس الآن."
مرت الأيام، والعصفور يتعافى، حتى جاء ذلك الصباح المختلف. استيقظ سامر على صوت زقزقة حادة. وجد العصفور يقف على حافة النافذة المفتوحة، جناحاه مكتملان تقريبًا، والنور ينعكس على ريشه فيجعله كقطعة من السماء.
تجمّد في مكانه. لم يقل شيئًا. كل ما فعله أنه جلس يراقب.
العصفور التفت إليه للحظة، نظرة طويلة، كأنها وداع.
ثم رفرف بجناحيه وطاف الغرفة دورة واحدة، قبل أن يطير نحو السماء.
شعر سامر كأن شيئًا يُنتزع من صدره، لكنه لم يحاول منعه. ظل ينظر إليه حتى اختفى خلف الغيوم، ثم جلس على الأرض، والدموع تنساب على خديه دون أن يحاول مسحها.
في تلك اللحظة، أدرك أن العصفور لم يكن مجرد طائر جريح، بل كان مرآة لحياته، لصراعه مع الفقد والخوف من الحرية. لقد جاء ليعلمه أن الشفاء لا يعني البقاء، بل الرحيل أحيانًا.
في المساء، عاد سامر إلى غرفته، وجد ريشة صغيرة على حافة النافذة. التقطها ووضعها في صندوق خشبي صغير بجانب صورة والدته، وهمس:
– "رحلتما معًا... لكنكما تركتما لي شيئًا من الضوء."
ومن تلك الليلة، صار يفتح النافذة كل صباح، لا ليبحث عن العصفور، بل ليمنح نفسه فرصة أن يتنفس من جديد، كما لو أن كل نسمة هواء تحمل رسالة خفية من الجناح المكسور الذي تعلم الطيران من جديد.
لكنّ شيئًا ما في داخله كان يقول إن القصة لم تنتهِ بعد، وإن العصفور سيعود بطريقة ما، حين يحين وقت مواجهة الحقيقة التي حاول نسيانها.
كانت
السماء في تلك الليلة تمطر بهدوء، وكأنها تشاركه الحنين. وبين خرير المطر،
ظن سامر أنه سمع الزقزقة ذاتها تعود من بعيد. رفع رأسه إلى السماء وقال
مبتسمًا:
– "ربما ما زلت هنا... يا عصفوري الحزين."
ثم أطفأ النور، واستسلم لصوت المطر، فيما ظل الريش الأبيض الصغير يلمع على الطاولة مثل ذكرى لا تريد أن تغيب.....
تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.