رواية ظلال من أرض المواقع : الجزء الثالث - حبٌ يولد من الرماد

Admin
0

لم ينسَ آدم تلك الليلة، ولا المطر الذي غسل وجهه وكأنه يغسل آخر بقايا الوهم من قلبه. كانت خطواته في الطريق بطيئة، مثقلة بذكريات لا تُنسى، ودموع لم تجد سبيلها إلى الخد. شعر أنه خرج من معركة لم ينتصر فيها أحد، وأن الخداع لم يكن بينه وبين نهى فقط، بل بينه وبين نفسه أيضًا.

رواية ظلال من أرض المواقع : الجزء الثالث - حبٌ يولد من الرماد
عاد إلى بيته في صمت، جلس أمام نافذته يتأمل قطرات المطر تتساقط بانتظام. لم يشعر بالبرد، ربما لأن داخله كان أشد برودة. أطفأ كل الأجهزة الإلكترونية، أغلق الحاسوب والهاتف، كأنه يريد أن يقطع آخر خيط يربطه بعالم المواقع الذي سرق منه سعادته.

في الأيام التالية، عاش صراعًا مريرًا بين الرغبة في النسيان والخوف من الفقد. كان يكرهها ويشتاق إليها في الوقت ذاته. كل شيء حوله كان يذكّره بها؛ الموسيقى التي كانت تحبها، الأماكن التي تحدّثا عنها، حتى الكلمات التي كتبها في دفتره صارت أشباحًا تطارده.
في المساء، كان يخرج إلى الشرفة ليتحدث إلى نفسه. يقول بصوت خافت: “أحببتكِ بصدق، وخدعتني بصدق، فهل تساوينا؟”

مرّ شهران، بدأ فيهما آدم يعيد ترتيب حياته. عاد إلى عمله، انشغل بمشاريعه القديمة، وبدأ يكتب من جديد. الكتابة كانت وسيلته الوحيدة للتنفيس، لكنها كانت أيضًا سجنه. كل حرفٍ كان يحمل وجعًا، وكل نصٍ كان مرآة لقلبٍ محطم.
نشر أحد مقالاته بعنوان: "عندما تخدعنا الشاشة وتصدق القلوب"، وانتشر المقال في مواقع التواصل انتشار النار في الهشيم. تلقّى رسائل كثيرة من قراء وجدوا أنفسهم في كلماته، وبعضهم كتب له: “كتبت ما لا نجرؤ على قوله.”

بين تلك الرسائل، كانت هناك رسالة مختلفة، قصيرة وبسيطة، تقول:
“كتابتك تشبه الجرح الذي يبتسم قبل أن ينزف.”
لم يكن فيها اسم، فقط توقيع: “نور.”
قرأها مرارًا، لم يعرف لماذا شعر أن هناك شيئًا حقيقيًا خلف تلك الكلمات. كانت الجملة تحمل صدقًا لم يلمسه منذ فترة طويلة.

بدأ يتلقى من نور رسائل أخرى بين الحين والآخر، لا تتحدث كثيرًا، فقط تعلّق على مقالاته بلغة هادئة وراقية. ومع مرور الوقت، بدأ ينتظر رسائلها كما كان ينتظر رسائل نهى سابقًا، لكن هذه المرة بشيء من الحذر.
كان يقول لنفسه: “لن أسمح لقلبٍ آخر أن يخدعني.” لكنه كان يعلم أن القلب لا يسمع الأوامر.

مرت أسابيع، واقترح عليها أن يتحدثا عبر البريد بدل الرسائل القصيرة، فقالت:
“أنا لست ممن يحبون الدردشة الطويلة، لكن معك... أشعر أن الكلمات تعرف طريقها دون أن أضطر لتزيينها.”
أعجبته تلك الجملة، كانت بسيطة لكنها صادقة، تمامًا كما تمنى دائمًا.

بدأت بينهما علاقة مختلفة. لم تكن حبًا مباشرًا، بل حوارًا روحانيًا يشبه الصداقة العميقة. تحدثا عن الحياة، عن الخسارات، عن معنى الصدق في زمنٍ مزيّف. كانت نور تملك عقلًا ناضجًا وروحًا مطمئنة، وكانت تشعره أن الألم يمكن أن يتحوّل إلى ضوء إذا فهمناه بدل أن نكرهه.

ذات مساء، كتب لها:
“هل تؤمنين أن الجراح يمكن أن تُنبت حبًا جديدًا؟”
فردت: “ربما، لكن فقط حين لا نبحث عن من يشبه من جرحنا، بل عن من يختلف عنه تمامًا.”
توقّف عند عبارتها طويلًا. كانت كلماتها تشبه دواءً هادئًا لجراحه القديمة. بدأ يشعر أن هناك أملًا صغيرًا يتسلل إلى قلبه من جديد.

مرت الأيام، وتحوّل حديثهما إلى طقسٍ يومي. كان يرسل لها صباحًا: “أتمنى أن يكون يومك خفيفًا مثل حرفٍ جميل.”
فتردّ عليه: “وحروفك تجعل الصباح أقل وحدة.”
تلك الكلمات البسيطة كانت كفيلة بأن تمنحه طاقةً جديدة للحياة.

لكن الإنسان حين يبدأ بالتعافي، يأتي الماضي ليختبره.
في أحد الأيام، تلقى رسالة غير متوقعة من عنوانٍ مألوف… كانت من نهى.
قرأها ببطء، تقول:
“آدم، لا أطلب عودة ولا غفرانًا، فقط أردت أن أقول إنني بدأت أتعالج نفسيًا، وكنت سببًا في ذلك. كلماتك علمتني كيف أواجه حقيقتي. سامحني إن استطعت، فقد أحببتك من مكانٍ مظلم.”

أغلق الرسالة وتنفس بعمق. لم يشعر بالغضب هذه المرة، بل بشيء يشبه السلام. كتب ردًا قصيرًا قال فيه:
“أتمنى لكِ الشفاء. ما حدث كان درسًا لي ولكِ معًا. كلانا خُدع، ولكن ليس ببعضنا، بل بأنفسنا.”
أرسلها وأغلق البريد، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة لأول مرة منذ شهور.

في الليلة نفسها، كتب لنور رسالة طويلة قال فيها:
“ربما لا تعرفين، لكن وجودك أعاد لي الإيمان بأن الحياة يمكن أن تبدأ من الرماد. كنت أظن أن الحب انتهى داخلي، لكنكِ جعلتني أرى أنه لا يموت، بل يختبئ حتى يجد من يستحقه.”

تأخّر الرد قليلًا، ثم وصل في منتصف الليل:
“آدم، أنا لست هنا لأكون علاجًا لوجعك، بل لأكون الحقيقة التي لا تؤلم. إن كنت ترى فيّ بداية جديدة، فلتكن صادقة، لا ظلًا من ماضٍ راحل.”
ابتسم وقال لنفسه: “كم أنتِ مختلفة، يا نور.”

مرت الأسابيع، واقترح أن يلتقيا أخيرًا. ترددت في البداية، ثم وافقت قائلة: “لكن دعنا نلتقي كأصدقاء أولاً، فاللقاءات الصادقة لا تحتاج عناوين جاهزة.”
وافق فورًا.

في يوم اللقاء، وصل إلى المقهى قبل الموعد بنصف ساعة. كان متوترًا رغم محاولاته إخفاء ذلك. جلس في الزاوية نفسها التي التقى فيها ريم — أو نهى — ذات يوم. كأن القدر يريد أن يعيد المشهد ولكن بحكاية جديدة.
دخلت نور بعد دقائق. كانت ترتدي فستانًا بسيطًا بلون السماء في الصباح، ووجهها يحمل ملامح راحة لا توصف.
اقتربت منه بابتسامة هادئة وقالت: “تبدو أفضل من صورك في خيالي.”
ضحك وقال: “وهل كان خيالك كريمًا أم قاسيًا؟”
قالت: “قاسي بالقدر الذي يجعل الحقيقة أجمل.”

جلسا يتحدثان كأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن. لم يكن هناك تصنّع ولا أقنعة. كانت نظراتها صادقة، وصوتها مطمئنًا. شعر أن قلبه أخيرًا عاد لينبض دون خوف.
قال لها في نهاية اللقاء: “تعرفين؟ أعتقد أنني لم أعد أكره الإنترنت.”
قالت مبتسمة: “لأنك وجدت فيه الصدق هذه المرة.”
قال: “بل لأنني وجدت فيه إنسانة لا تكتب لتخدع، بل لتشفي.”

افترقا على وعد بلقاءٍ جديد، لكنه في طريق العودة شعر بشيءٍ غريب في صدره، مزيج من سعادة وقلق. كان يخاف أن يكون الحظ لا يحبّه مرتين. ومع ذلك، كان مستعدًا للمخاطرة.
كتب في دفتره تلك الليلة:
“أحيانًا يولد الحب من بين أنقاض الخيبة، كزهرة تشقّ الرماد لتعلن أن النهايات ليست دائمًا موتًا.”

في اليوم التالي، أرسل لها رسالة قصيرة:
“شكراً لأنك جعلتني أصدق أن القلوب المكسورة يمكنها أن تنبض من جديد.”
لكن الرد لم يصل تلك الليلة، ولا في اليوم التالي. انتظرها يومين، ثلاثة، أسبوعًا كاملًا، ولم تأتِ أي رسالة. بدأ القلق يتسلّل إليه من جديد. هل حدث لها شيء؟ أم أنها مثل غيرها... رحلت بصمت؟

بعد أسبوعين، وصله بريد إلكتروني منها. فتحه بسرعة، فوجد فيه جملة واحدة فقط:
“آدم، إن غبت يومًا، فتذكّر أن النور لا يغيب، بل ينتظر من يبحث عنه.”

لم يفهم ما تعنيه، لكنه شعر أن شيئًا سيئًا يحدث. حاول مراسلتها، لكن البريد تم حذفه. حاول البحث عنها في كل مكان، بلا جدوى. كأنها اختفت من الوجود.

في تلك الليلة، جلس أمام نافذته من جديد، لكن هذه المرة لم يبكِ. فقط ابتسم وقال:
“ربما خُلقت لأتعلم الحب من كل من يرحل، لا من كل من يبقى.”......

ظلال من أرض المواقع - الجزء الاول 

ظلال من أرض المواقع - الجزء الثاني

قسم

إرسال تعليق

0 تعليقات

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.

إرسال تعليق (0)
3/related/default