في قديم الزمان، في قريةٍ صغيرة تحيط بها الجبال من كل جانب وتغمرها أشعة الشمس الذهبية كل صباح، عاشت أسرة فقيرة تتكون من أبٍ بسيط اسمه سالم، وأمٍ حنون تُدعى فاطمة، وابنتهما الوحيدة منار. كانت منار في الثانية عشرة من عمرها، فتاةً ذكية وهادئة الجمال، شعرها الأسود الطويل ينساب كجدولٍ من الحرير، وابتسامتها كانت تُنسي أهل القرية تعبَ يومهم الطويل. رغم فقرهم الشديد، كان بيتهم الصغير يمتلئ بالحب والدفء، وكانوا يؤمنون أن الرزق الحقيقي ليس في المال، بل في القلوب العامرة بالرضا.
لكن الأيام لا تُبقي الحال على ما هو عليه. فقد تعرضت القرية في أحد الأيام لعاصفةٍ قوية لم تشهد مثلها من قبل. تساقط المطر كأن السماء تبكي، وهبّت الرياح العاتية حتى اقتلعت بعض الأشجار، وغمرت المياه البيوت الطينية. وبينما حاول الأب إنقاذ ما يمكن إنقاذه، انهار سقف بيتهم القديم، وتفرقت محتوياته في كل مكان. وقفت منار بجانب أمها تنظر بعينيها الواسعتين إلى المشهد المأساوي، تشعر بالعجز والدموع تنهمر على خديها. لم يعد لديهم مأوى، ولا طعام كافٍ، ولا حتى فراش ينامون عليه.
مرت أيامٌ عصيبة، حاول سالم خلالها إصلاح ما تهدم، لكن موارده القليلة لم تساعده. كان يعود كل مساء ويداه مليئتان بالطين والتراب، وفي عينيه بريق أملٍ لا ينطفئ، لكنه كان يعلم أن الأمر يتجاوز قدرته. أما فاطمة فكانت تحاول التخفيف عن ابنتها الصغيرة، تخبز لهم القليل مما تبقى من القمح، وتروي لهم قصصاً قبل النوم تحت ظل شجرة قرب أطلال منزلهم. كانت منار تُصغي بصمت، لكن قلبها كان يغلي بالحزن والإصرار.
وفي إحدى الليالي، بينما كان القمر مكتملاً والنجوم تلمع في السماء، جلست منار تتأمل في السماء وقالت في نفسها:
"لابد أن هناك طريقاً ما، لابد أن أفعل شيئاً من أجل أبي وأمي. لا يمكن أن نبقى هكذا."
وفي الصباح التالي، قبل أن يستيقظ والداها، حملت منار سلتها الصغيرة وقررت أن تذهب إلى الغابة القريبة، علّها تجد فيها شيئاً يمكنها بيعه أو استخدامه لإصلاح بيتهم.
كانت الغابة مكاناً غامضاً، تتداخل فيه الأشجار الطويلة وكأنها تتحدث بلغةٍ لا يفهمها البشر. كانت منار تمشي بحذر، تسمع أصوات الطيور والفروع المتكسرة تحت قدميها، ومع ذلك كانت شجاعة. وبعد ساعاتٍ من السير، توقفت فجأة عندما سمعت صوت بكاءٍ خافتٍ قادم من بين الشجيرات. اقتربت بحذرٍ شديد، فوجدت مخلوقاً صغيراً لا يتجاوز حجم الكف، له جناحان شفافان كأجنحة اليعاسيب ووجه يشعّ بالضوء الخافت.
قالت منار بدهشة: "من أنت؟ ولماذا تبكي؟"
رفع المخلوق رأسه وقال بصوتٍ ناعم: "أنا زيزو، من عالمٍ صغيرٍ لا يراه البشر، ضللت طريقي أثناء رحلةٍ كنت فيها أبحث عن زهرة الحياة التي تُضيء موطني، والآن لا أعرف كيف أعود."
ابتسمت منار برفق ومسحت دموعه الصغيرة بطرف أصبعها وقالت: "لا تقلق يا زيزو، سأساعدك في العودة، لكني أيضاً في مأزق. لقد دُمر بيتنا، وأريد أن أجد شيئاً يساعدنا على بنائه من جديد."
أجاب زيزو بعد لحظة صمت: "إذا ساعدتني، فسأساعدك أنا أيضاً، فلعالمنا أسرار لا يعرفها البشر."
وهكذا بدأت بينهما صداقة غريبة. أخذ زيزو يُرشدها في الغابة، وأخبرها عن الأشجار التي تخفي داخلها الخشب الصلب القوي، وعن الأحجار التي لا تتشقق حتى في المطر. بمساعدته، جمعت منار مواد كثيرة، لكن المفاجأة كانت عندما قادها زيزو إلى ينبوعٍ صغير خلف الصخور، ينبعث منه ضوءٌ أزرق باهر. قال لها: "هذه مياه القوة، إذا مزجتِها بالطين وجففتهِ في الشمس، صار أصلب من الحجر."
قضت منار أياماً في الغابة تجمع المواد وتخلط الطين بالماء السحري وتشكله بيديها الصغيرتين. كان زيزو يساعدها طوال الوقت، يضحكان حيناً ويتعبان حيناً آخر، لكنهما لم يفقدا الأمل. وبعد أسبوعٍ من العمل الشاق، حملا ما استطاعا من مواد إلى القرية.
حين رآها والدها سالم، لم يصدق ما تفعله ابنته. كانت يداها مليئتين بالطين، لكن عينيها تتقدان بالعزيمة. قالت له بحماس: "أبي، سنبني بيتنا من جديد، ولن تسقطه الرياح مرة أخرى." لم يكن سالم يفهم ما الذي يجعل الطين بهذه الصلابة، لكنه وثق بابنته، وبدأ العمل معها ومع أمها. يوماً بعد يوم، بدأ البيت يعود كما كان، بل أجمل وأقوى.
وخلال تلك الفترة، لاحظ أهل القرية ما تفعله منار. اقتربت منهم بعض العائلات، وساعدوهم بما لديهم من أدوات. بدأت القرية كلها تتعاون لإعادة إعمار البيوت المهدّمة. ومنار أصبحت رمزاً للأمل بينهم.
لكن بينما كانت الأيام تمر بسلام، كان هناك رجلٌ من القرية المجاورة يُدعى شاهين، اشتهر بجشعه وحسده. عندما سمع عن الطين الصلب الذي بنى به أهل القرية بيوتهم، قرر أن يعرف سرّه ليستولي عليه. تسلل ليلاً إلى بيت منار وراقبها من بعيد وهي تمزج الطين بالماء المضيء. وحين نام الجميع، سرق جرة من الماء السحري وهرب.
في اليوم التالي، استيقظت منار لتجد أن الجرة اختفت. شعرت بالقلق وأخبرت زيزو، الذي بدوره قال بقلقٍ شديد: "هذه كارثة! الماء السحري لا يُستخدم إلا بالنية الطيبة. إذا استخدمه أحد للجشع، سيتحول إلى نارٍ تدمر كل ما حولها."
أسرعت منار ووالداها نحو القرية المجاورة، حيث وجدوا الناس يصرخون والنيران تشتعل في كل مكان. فقد خلط شاهين الماء بالطين طمعاً في بناء قصرٍ كبير، لكن الماء السحري تحول إلى لهبٍ أزرق أكل كل شيء. كانت السماء تمطر شرراً، والدخان يغطي المكان. ركضت منار نحو البئر حيث كان مصدر اللهب، وهي تحمل في يدها زهرة صغيرة أعطاها لها زيزو من قبل، وقال لها إنها تطفئ النيران الشريرة.
وقفت بشجاعة أمام اللهب الهائج، وضغطت على الزهرة بيديها حتى خرج منها نور أبيض ساطع غمر المكان كله. سكتت النيران فجأة، وعمّ الهدوء القرية، وكأن الزمن توقف لبرهة. سقط شاهين على ركبتيه يبكي نادماً، بينما اقترب أهل القرية منها بدهشة وإعجاب.
بعد أن عاد الهدوء، قررت منار مع والديها وزيزو أن يخفوا سر الماء السحري إلى الأبد، حتى لا يُستخدم في الشر مرة أخرى. وعاد زيزو إلى موطنه بعد أن ودعها والدموع في عينيه، وقال لها: "أنتِ لم تساعديني فقط في العودة إلى بيتي، بل ذكّرتني بمعنى الخير والإيثار. تذكّري يا منار، إن القوة الحقيقية ليست في السحر، بل في القلب الطيب الذي يضحي من أجل الآخرين."
عادت منار إلى قريتها وهي تشعر بالفخر والامتنان. أصبحت بطلة بين الناس، ليس لأنها استخدمت سحراً، بل لأنها علمتهم أن الأمل والعمل يمكن أن يصنعا المعجزات. مع مرور السنوات، كبرت منار، وصار بيتها مأوى للفقراء والمسافرين. تعلمت القراءة والكتابة من أحد المعلمين الذين مروا بالقرية، وأصبحت فيما بعد تعلم الأطفال في قريتها كيف يواجهون الحياة بشجاعة وصدق.
وفي أحد المساءات الهادئة، جلست منار قرب نافذتها، تتأمل الغروب الذي يلوّن السماء بألوانٍ من ذهبٍ وبرتقال. سمعت صوتاً خافتاً يناديها من بعيد، صوتاً مألوفاً كأن الريح تحمله من زمنٍ مضى، يقول: "شكراً يا منار..." ابتسمت وهي ترفع عينيها نحو السماء، فرأت نجمة تلمع أكثر من غيرها، فعرفت أن زيزو ما زال يراقبها من عالمه البعيد.
ومنذ ذلك اليوم، أصبحت قصة منار تُروى في كل بيت في القرية، لتكون درساً في الصبر، والشجاعة، والإيمان بأن الخير لا يضيع مهما كان صغيراً. عاش أهل القرية بعدها في رخاءٍ وسلام، وكانوا كلما نظروا إلى منزل منار القوي المشرق يتذكرون أن الفقر لا يهزم القلب المؤمن، وأن من يحمل النور في داخله لا يمكن أن تكسِره العواصف أبداً.
وهكذا، ظلت منار رمزاً للأمل والنقاء، تُذكر كل من عرفها أن العطاء لا يحتاج إلى مال، بل إلى قلبٍ مؤمنٍ بالخير مهما اشتدت العواصف.


تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.