كان “ياسر” يجلس في مقعده الأخير داخل الصف الخامس الابتدائي، ينظر من النافذة نحو السماء الرمادية التي بدت كأنها حزينة مثله. كانت أوراقه مليئة بالأخطاء، وأستاذ العلوم أعاد له الدفتر قائلًا بنبرة خفيفة: “ياسر، حاول تركّز أكثر المرة الجاية”. لم تكن الكلمات قاسية، لكنها كانت كفيلة بأن تجعل قلبه الصغير يضيق أكثر. منذ أن رحل والده للعمل في بلد بعيد، تغيّر كل شيء. لم يعد البيت دافئًا كما كان، ولم تعد أمه تبتسم كثيرًا. أما هو، فقد صار يشعر وكأن العالم كله أكبر منه، وكأنه مهما حاول، فلن يستطيع أن يثبت نفسه.
خرج ياسر من المدرسة متجهًا إلى البيت، يسير بخطوات بطيئة في الشارع الترابي الصغير. كان يحمل حقيبته القديمة على كتفه، ويفكر في جمل كثيرة يسمعها كل يوم: “أنت فاشل”، “لن تنجح”، “أخوك أشطر منك”. لم يكن أحد يعرف ما يشعر به حقًا. كان صامتًا دائمًا، لكنه يحمل في داخله طاقة كبيرة لم يجد من يفهمها. وعندما دخل إلى البيت، وجد أمه منشغلة في إعداد الطعام. ابتسمت له ابتسامة متعبة وقالت: “كيف كان يومك يا ياسر؟”. أجاب بهدوء: “عادي يا أمي”. لم تقل شيئًا آخر، فقط نظرت إليه بعينين مليئتين بالحنان والقلق.
في تلك الليلة، جلس ياسر بجانب النافذة ينظر إلى السماء. كانت ملبدة بالغيوم، والبرد يتسلل إلى الغرفة من خلال النافذة القديمة. فجأة لمح نورًا صغيرًا يلمع في السماء، ظنّه نجمًا، لكنه لاحظ أنه يتحرك ببطء نحو الأرض. شعر بقشعريرة تسري في جسده، ففتح النافذة أكثر، وسمع صوتًا خافتًا يقول: “هل ما زال هناك من يؤمن بالأمل؟”. لم يصدق أذنيه. أدار رأسه حوله، لكن لم يكن أحد في الغرفة. ثم عاد الصوت يقول: “يا صغير، إن كنت تؤمن أن للسماء لونًا آخر، فاتبع النور”.
وقف ياسر على قدميه، شعر بخفقان قلبه يتسارع. لم يعرف هل يحلم أم أن هذا حقيقي. لبس سترته بسرعة، وخرج من البيت. كان الليل هادئًا إلا من صوت الريح. اتجه نحو الحديقة الصغيرة خلف المدرسة، حيث بدا أن الضوء يهبط هناك. وعندما وصل، رأى شيئًا غريبًا: كرة صغيرة تشعّ بضوءٍ أزرق لطيف، تطفو فوق الأرض. اقترب منها ببطء، ثم مدّ يده بحذر. ما إن لمسها حتى شعر بدفءٍ غريب يسري في جسده، وسمع الصوت من جديد يقول: “مرحبًا بك في اختبار السماء يا ياسر”.
قال ياسر بصوتٍ مرتجف: “من أنت؟”.
أجاب الصوت: “أنا رسالة الأمل. كنتُ أبحث عن طفلٍ لم يتوقف عن الحلم رغم الصعوبات، ووجدتك”.
قال ياسر: “لكنني لست مميزًا، الجميع يراني ضعيفًا”.
ضحك الصوت وقال: “ربما هم لا يرون، لكن السماء ترى من يحاول حتى وهو حزين.
اسمع يا صغير، أمامك ثلاث اختبارات، إن تجاوزتها، ستكتشف كيف تغيّر لون
السماء، ليس بيديك، بل بقلبك”.
جلس ياسر أمام الكرة المضيئة، وبدأ
كل شيء من حوله يتلاشى. وجد نفسه في مكانٍ غريب يشبه عالم الأحلام، لكن كل
شيء فيه حقيقي الملمس. سمع الصوت يقول: “الاختبار الأول: الثقة بالنفس”.
ظهر أمامه جدارٌ ضخم مغطى بكلمات مثل “فشل”، “خوف”، “سخرية”. قال الصوت:
“هذا جدار أفكارك السلبية. عليك أن تعبره دون أن تلمسه”.
تراجع ياسر قليلاً وهو ينظر إلى الجدار. بدا مستحيلاً تجاوزه. حاول أن
يقفز، لكن كلما اقترب، كان الهواء يثقله. عندها سمع صوت والده القديم في
ذاكرته يقول له: “يا ياسر، لا يوجد شيء مستحيل لمن يؤمن بنفسه”. عندها أغلق
عينيه، تخيّل أنه أخف من الهواء، وبدأ يمشي بخطوات واثقة نحو الأمام. كلما
تقدم، اختفت كلمات الجدار واحدة تلو الأخرى، حتى تلاشى تمامًا. تنفس بعمق،
وابتسم.
قال الصوت: “لقد اجتزت الاختبار الأول، لأنك تذكّرت من أنت”.
ثم انتقل فجأة إلى مكان آخر. كان أمامه نهرٌ واسع من الضوء، وعلى ضفته الأخرى طفل صغير يبكي. قال الصوت: “الاختبار الثاني: التعاطف”. اقترب ياسر وسأل الطفل: “لماذا تبكي؟”. أجاب: “لأنني وحدي، ولا أحد يساعدني”. نظر ياسر حوله فلم يجد قاربًا. جلس على الأرض وفكر قليلاً، ثم خلع حذاءه وقرر أن يعبر السباحة. المياه كانت باردة، لكنها مضيئة وجميلة. عندما وصل، أخذ بيد الطفل وساعده على النهوض. فجأة تحول الطفل إلى طائرٍ أبيض كبير، وقال بصوتٍ عذب: “لقد تعلمت أن من يساعد غيره، يضيء جناحيه”. طار الطائر عاليًا، وترك وراءه ريشة مضيئة. أمسكها ياسر بحذر، فسمع الصوت يقول: “لقد اجتزت الاختبار الثاني، لأنك لم تفكر بنفسك فقط”.
وفي اللحظة التالية، وجد نفسه في صحراء واسعة، والرياح تعصف بالرمال. سمع الصوت يقول: “الاختبار الثالث: الإصرار”. أمامه تلّ ضخم مكتوب عليه كلمة “اليأس”. قال الصوت: “في أعلاه يوجد مفتاح السماء. إن وصلت إليه، ستعرف سرّ اللون”. بدأ ياسر يتسلق التلّ بخطواتٍ بطيئة. كانت الرياح تضرب وجهه، والرمال تلسع قدميه. تعثر مرارًا، وسقط أكثر من مرة، لكنه كان يتذكر وجه أمه حين قالت له ذات يوم: “يا بني، كل سقوط هو خطوة نحو الوقوف”. واصل الصعود رغم الألم، حتى وصل إلى القمة. وجد هناك مفتاحًا صغيرًا يشعّ بالضوء. أمسك به وقال بصوتٍ مرتفع: “لن أستسلم بعد الآن”. عندها انفتح أمامه بابٌ في السماء، وغمره نور قوي جعل عينيه تدمعان.
عندما فتح عينيه مجددًا، وجد نفسه في
غرفته. كانت الشمس تشرق من النافذة، والسماء زرقاء صافية. نهض بسرعة ونظر
حوله، فوجد على مكتبه الريشة المضيئة التي أعطاها له الطفل الطائر. ابتسم،
وشعر أن كل ما حدث لم يكن حلمًا عاديًا. في المدرسة ذلك اليوم، كان
مختلفًا. رفع يده لأول مرة ليشارك في الدرس، وتحدث بثقة جعلت المعلم يبتسم.
بعد الدوام، ساعد صديقه في حمل حقيبته الثقيلة، وقال له بابتسامة: “كلنا
ممكن ننجح لو ساعدنا بعض”.
لم يكن أحد يعرف ماذا تغيّر في ياسر، لكن الجميع شعر أن شيئًا جميلًا عاد للحياة فيه.
مرت الأيام، وصار ياسر من الطلاب المتفوقين. لم يكن الأذكى دائمًا، لكنه كان الأكثر إصرارًا. كان يحاول، ويبتسم، ويساعد غيره. وبعد عامين، في يوم التكريم، وقف على المسرح ليحصل على جائزة “أفضل تقدم دراسي”، فقال المعلم أمام الجميع: “هذا الطالب لم يستسلم، ولم يترك للظروف أن تحدد مستقبله، بل صنع لنفسه طريقًا بالجهد”. صفق الجميع بحرارة، وكانت أمه تبكي من الفرح في الصفوف الخلفية.
بعد انتهاء الحفل، خرج ياسر وحده إلى فناء المدرسة، نظر إلى السماء الزرقاء وقال همسًا: “لقد غيرتِ لونكِ كما وعدتِ”. كانت الريشة ما زالت في جيبه، تشعّ بخفوت. أمسكها وقال: “السماء ليست بعيدة، إنها في قلوب من يؤمنون أن الأمل لا يموت”.
مرّت سنوات طويلة، وكبر ياسر وأصبح
شابًا ناجحًا يعمل مهندسًا للطاقة الشمسية. كان يساعد القرى الفقيرة في
تركيب الألواح لتوليد الكهرباء. لم ينسَ يومًا تلك الليلة التي غيّرت
حياته. وفي إحدى الورش التعليمية للأطفال، جلس أمام مجموعة من الصغار
وسألهم: “من منكم يشعر أحيانًا أنه ضعيف؟”. رفع بعضهم أيديهم. ابتسم وقال:
“أنا كنت مثلكم تمامًا، لكنني تعلّمت شيئًا مهمًا: أن السماء لا تتغير إلا
حين نقرر نحن أن نؤمن بأننا نستطيع”. ثم أخرج من جيبه الريشة المضيئة
القديمة ووضعها على الطاولة. سأل أحد الأطفال بدهشة: “هل هي حقيقية؟”.
قال ياسر وهو ينظر إليها بعينين تلمعان: “نعم، لكنها لا تضيء إلا لمن يملك قلبًا لا يعرف اليأس”.
في تلك الليلة، وهو عائد إلى منزله، نظر إلى السماء فرأى نجمةً صغيرة تشعّ أكثر من غيرها. ابتسم وقال: “ربما هناك طفل آخر الآن يسمع صوت الأمل”. ثم واصل سيره مطمئنًا، والسماء من فوقه كانت أزرق من أي وقت مضى.
وفي
أحد البرامج التلفزيونية التي تهتم بقصص النجاح، استُضيف ياسر بعد سنوات
ليحكي قصته. تحدث عن طفولته الصعبة، وكيف كانت أحلامه صغيرة، لكنه لم
يستسلم. قال للمذيع: “لم يكن في حياتي كرة مضيئة حقًا، لكنها كانت رمزًا
للأمل الذي لم أسمح له أن ينطفئ”.
ثم أضاف وهو ينظر إلى الكاميرا: “أريد أن أقول لكل طفل يشاهدني الآن: أنت
قادر، حتى لو سخر منك الآخرون، حتى لو شعرت أنك وحيد. أهم شيء ألا تفقد
إيمانك بنفسك، لأن السماء ستغيّر لونها لأجلك إن حاولت بصدق”.
انتهى اللقاء، وصفق الجميع. وعندما خرج من الاستوديو، كانت السماء في تلك الليلة زرقاء صافية رغم أن التوقعات قالت إنها ستكون ملبدة بالغيوم. ابتسم ياسر وقال بهدوء: “ما زالت تتذكر وعدها”.

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.