رواية ظلال من أرض المواقع : بداية من شاشة باردة - الجزء الاول

Admin
0

لم يكن "آدم" يظن أن حياة الإنسان يمكن أن تتغيّر من خلال نافذة صغيرة مضيئة على شاشة هاتف، نافذة تحمل اسمًا غريبًا وصورة رمزية لوجهٍ لا يعرفه، لكنها كانت السبب في أن يعيش أجمل لحظات حياته وأكثرها وجعًا.

رواية ظلال من أرض المواقع : بداية من شاشة باردة - الجزء الاول
في تلك الليلة، جلس آدم أمام حاسوبه القديم، يعبث بالمواقع الإلكترونية دون هدف محدد. كان يشعر بفراغ داخلي عميق، كأن الأيام تمضي حوله دون أن تترك فيه أثرًا. منذ فترة لم يعد يجد طعمًا لأي شيء، لا في عمله الروتيني ولا في صداقاته الباهتة، حتى أسرته باتت تشعر بوجوده كأنه ظلّ عابر في المنزل. دخل موقعًا جديدًا للتسلية، أشبه بغرفة للدردشة، اسمه “من أرض المواقع”. لم يكن يعلم أن هذا الاسم سيصبح عنوانًا لفصلٍ جديد من حياته.
كتب في خانة التعريف: “شاب عادي يبحث عن من يفهمه”. ضحك من بساطة العبارة، لكنه تركها كما هي. وبعد دقائق، ظهرت أمامه رسالة من حسابٍ باسم “نُهى”. كانت الصورة فتاة ترتدي نظارة صغيرة وتبتسم بخجل. كتبَت له:
“مساء الخير يا من يبحث عن من يفهمه، هل وجدت أحدًا حتى الآن؟”
ابتسم آدم، وردّ: “ربما الآن فقط بدأت أجد.”
لم يكن يعلم أن تلك الجملة ستكون أول خطوة نحو سلسلة من المشاعر المتناقضة، بين ضحكٍ وبكاء، وبين وعدٍ وندم.

بدأت المحادثات بينهما خفيفة، عن الأفلام، الكتب، الموسيقى. كانت نهى مثقفة، تعرف كيف تلمس مشاعر الآخر دون أن تتصنع. كانت كلماتها دافئة رغم برودة الشاشة. شيئًا فشيئًا، صار آدم ينتظر رسائلها أكثر مما ينتظر نومه، ويستيقظ أحيانًا فقط ليرى إن كانت متصلة. كان يبرر لنفسه أن ما يحدث مجرد تسلية، لكن في داخله كان يشعر بشيءٍ يتجاوز التسلية بكثير.

مرت أيام قليلة، وأصبحت نهى جزءًا من تفاصيل يومه. كانت تكتب له صباحًا: “صباحك يشبهني، لا يعرف الهدوء لكنه جميل.” وكان يرد: “وصباحك أنتِ، يشبه البداية التي لم أتوقعها.”
كان الحوار بينهما بسيطًا، لكنه عميق في معناه. ومع مرور الوقت، بدأت نهى تفتح له أبوابًا من حياتها الشخصية. قالت له إنها تعمل في مجال التصميم، وأنها لا تثق بسهولة في الناس بعد خيانة قديمة. كان آدم يستمع إليها باهتمام، يشعر أن هناك ألمًا يشبه ألمه، وكأن القدر جمع بين جرحين ليواسي أحدهما الآخر.

في إحدى الليالي، كتب لها: “هل تصدقين أنني بدأت أفتقدك قبل أن تنتهي محادثتنا؟”
ردت بعد لحظات صمت: “ربما لأنك بدأت تعيش بين الحروف أكثر مما تعيش في الواقع.”
توقف أمام كلماتها طويلاً. نعم، لقد بدأ يعيش داخل هذه الشاشة الباردة، يتغذّى على كلماتها كما يتغذّى القلب على الأمل.

مرت أسابيع، تحوّل الحديث إلى مكالمات صوتية، ثم إلى لقاءات مصورة. لم يكن الجمال ما جذبه فيها، بل صدقها، أو على الأقل ما ظنه صدقًا. كانت تتحدث بعفوية تجعل المستحيل يبدو ممكنًا، وتجعل من الليل مساحة للأمان.
قالت له ذات مرة: “هل تعلم يا آدم؟ أحيانًا أشعر أنني أعرفك منذ سنوات، كأننا كنا نعيش في مدينة واحدة وفقدنا الطريق ثم وجدنا بعضنا هنا.”
ابتسم وقال: “ربما كنا جارين في شارع الحنين.”

كان آدم يعيش حالة نادرة من السعادة، لم يشعر بها منذ زمن بعيد. صار أكثر نشاطًا في عمله، وأكثر حيوية في يومه. أصدقاؤه لاحظوا التغيير، لكنه لم يخبر أحدًا عن سرّه. كان يحتفظ بنهى كسرٍ جميل، كزهرة يخاف عليها من الضوء.
لكن كما هي العادة، لا يبقى الضوء طويلاً في عالم الظلال.

بدأت بعض الأمور الصغيرة تثير شكوكه. ذات مرة سألها عن صورتها الحقيقية، فقالت إنها تفضل الخصوصية. مرة أخرى، قال لها إنه يريد مقابلتها، فتهرّبت بحجة الانشغال. لم يشأ أن يضغط عليها، لكنه بدأ يشعر أن هناك شيئًا غامضًا. ومع ذلك، كان قلبه يقنع عقله بأن الحب لا يحتاج إلى برهان، وأنه يكفي أن يشعر ليصدق.

في يومٍ من الأيام، أرسل لها رسالة طويلة قال فيها: “أريد أن أراك، لا لأنني أشك، بل لأنني أريد أن أثبت لنفسي أن هذا العالم الذي جمعنا ليس مجرد وهم.”
لم ترد في تلك الليلة. مرّ اليوم بطولِه كأنه عام. وفي المساء، جاءه إشعار: “نهى أرسلت لك رسالة.”
فتحها بسرعة، فقرأ:
“آدم، أنت شخص جميل، وربما أجمل مما أستحق. لكن اللقاء ليس فكرة جيدة، صدقني.”
كتب لها: “لماذا؟ هل هناك ما تخفينه؟”
فجاء الرد: “كلّنا نخفي شيئًا يا آدم، لكن بعض الأسرار إن كُشفت تقتل ما تبقى من جمال الحكاية.”

أغلق الحاسوب تلك الليلة وهو يشعر أن شيئًا في داخله قد انكسر. لأول مرة منذ شهور، شعر بالفراغ من جديد. لكنه رغم كل شيء، لم يستطع كرهها. بل ازداد تعلقًا بها، كمن يحاول الإمساك بسراب في صحراء من المشاعر.

مرت أيام صامتة، ثم عادت نهى للحديث، وكأن شيئًا لم يحدث. قالت له إنها اشتاقت إليه، وأنها خافت من فقدانه. كان قلبه أضعف من أن يرفض، فعاد إليها كمن يعود إلى إدمانه القديم.
لكن هذه المرة كان هناك شيء مختلف. كانت كلماتها أقل دفئًا، وغياباتها أكثر. كانت تتحدث وكأنها تكتب سيناريو معتادًا. ومع ذلك، ظلّ هو يصدق كل شيء. الحب حين يُولد من الحرمان، يخلق خيالًا يغلب الحقيقة.

وذات مساء، وبينما كان يتصفح حسابها في الموقع، لاحظ شيئًا غريبًا. وجدت منشورًا جديدًا كتبته في صفحتها:
“بعض القصص تُكتب فقط لتمرير الوقت، لا لتغيير الحياة.”
تجمّد قلبه. هل كان هو ذلك الوقت الذي مرّت به؟ أم كانت تلك الجملة رسالة مبطّنة؟
أعاد قراءة المنشور عشرات المرات، ثم أغلق الصفحة بيدٍ مرتجفة. شعر أن كل لحظة بينهما كانت تمثيلية متقنة، وأنه لم يكن سوى دورٍ صغير في مسرحية طويلة اسمها "التسلية".

تلك الليلة لم ينم. جلس يكتب لنفسه رسالة لم يرسلها:
“كنتِ البداية التي جعلتني أؤمن أن الكلمات يمكن أن تُشفي، لكنكِ أيضًا النهاية التي جعلتني أكره الحروف. علّمتِني أن الحب على الشاشة لا يُشبه الحب في العيون، وأن الصورة قد تخفي ألف كذبة، وأن الصوت يمكن أن يحمل دفئًا لا يملكه القلب. ومع ذلك، أحببتك بصدق، ربما أكثر مما أحببت نفسي.”

مع طلوع الفجر، أغلق آدم الحاسوب، وقرر مغادرة الموقع. لكنه قبل أن يفعل، تلقّى رسالة جديدة منها:
“آدم، أنا آسفة... هناك شيء يجب أن تعرفه.”
توقّف قلبه لحظة. فتح الرسالة، فقرأ:
“اسمي الحقيقي ليس نهى، والصورة ليست لي. لم أكن أريد خداعك، كنت فقط أهرب من واقعي. كنت أعيش حياة لا تشبهني، وجئت إلى هنا لأتسلّى، لكنك كنت مختلفًا... جعلتني أصدّق أن الحب يمكن أن يكون صادقًا حتى في الكذب.”

جلس طويلاً يقرأ كلماتها مرارًا. لم يكن يعرف هل يكرهها أم يشفق عليها، لكنه شعر أن شيئًا في داخله قد انتهى. كانت الحقيقة مؤلمة، لكنها أيضًا حررته.
خرج إلى الشرفة، نظر إلى السماء الرمادية وقال بصوتٍ خافت:
“ربما نحن جميعًا نبحث عن الحب في المكان الخطأ، نحاول أن نملأ فراغنا بأصواتٍ بعيدة، ننسى أن ما نفتقده ليس شخصًا، بل أنفسنا.”

كانت تلك الليلة آخر مرة يدخل فيها إلى “أرض المواقع”. أغلق حسابه، لكن ظلالها بقيت في ذاكرته، كوشمٍ لا يمحوه الزمن.
لم يكن يعلم أن القدر لم ينتهِ بعد، وأن ما ظنه النهاية لم يكن سوى بداية فصلٍ جديد، أكثر ألمًا وصدقًا في آنٍ واحد.....

ظلال من أرض المواقع - الجزء الثاني

ظلال من أرض المواقع - الجزء الثالث

ظلال من أرض المواقع - الجزء الرابع

ظلال من أرض المواقع - الجزء الخامس

قسم

إرسال تعليق

0 تعليقات

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.

إرسال تعليق (0)
3/related/default
هذا الإجراء غير مسموح لحماية المحتوى.