كانت "ليلى" تقف أمام نافذة غرفتها، تتأمل المدينة التي لا تنام. أضواء السيارات المتلاحقة تشبه أفكارها التي لا تهدأ، تتصارع داخلها بين البقاء والرحيل، بين بداية جديدة وبين الخوف من المجهول.
مرت ثلاث سنوات منذ أن تزوجت من "سامر"، الرجل الذي وعدها بأن تكون له الحياة كلها، ثم تحوّل مع الوقت إلى ظلٍّ غامقٍ يخنق أنفاسها.
في البداية، كانت تظن أن الحب وحده يكفي ليبقي الأشياء جميلة، لكن الأيام علمتها أن الحب بلا احترام يتحول إلى قيدٍ من حرير، يبدو ناعماً، لكنه يخنق ببطء.
كل مساء كانت تسأل نفسها:
هل أمتلك الشجاعة لأبدأ من جديد؟
هل أملك القوة لأتخلى عن كل هذا؟
كانت الإجابة تتأرجح بين “نعم” و“ربما”، حتى تلك الليلة التي رأت فيها نفسها في المرآة ولم تتعرف عليها.
كانت عيناها مطفأتين، تشبهان نافذتين مغلقتين على عاصفة من الخوف. عندها أدركت أن الكرامة ليست رفاهية، بل جوهر الحياة.
في الصباح، جمعت ما تبقّى من أشيائها، لم تأخذ الكثير — فقط حقيبة صغيرة ودفتر ملاحظاتها القديمة الذي كانت تكتب فيه أحلامها قبل أن تنطفئ. تركت خلفها رسالة قصيرة على الطاولة:
"لم أعد أبحث عن الحب، بل عن نفسي."
خرجت بخطوات مترددة، لكنها كانت أخف من أي وقت مضى. الهواء في الخارج كان بارداً، لكنه حمل في طياته دفئ الحرية. كانت تعرف أن الطريق صعب، وأن البداية الجديدة تحتاج شجاعة، لكنها للمرة الأولى شعرت أن قلبها ينبض بإيقاعها هي، لا بإيقاع أحدٍ آخر.
مرت الأيام، وبدأت "ليلى" من الصفر. عملت في مكتبة صغيرة، تقرأ للزوار وتساعد الأطفال في اختيار كتبهم. ومع كل صفحة كانت تقرأها، كانت تقرأ جزءاً من نفسها أيضاً.
تعلّمت أن القوة ليست في التشبث بالأشياء، بل في القدرة على تركها حين تؤذيك.
تعلّمت أن الحب الحقيقي لا يسلبك ذاتك، بل يعيدك إلى نفسك.
تعلّمت أن الكرامة ليست كبرياء، بل تذكير دائم بأننا نستحق أن نُعامل كما نحلم، لا كما نتنازل.
وذات مساء، بينما كانت ترتب الكتب على الرفوف، دخل شاب يحمل ابتسامة دافئة وكتاباً بين يديه. سألها:
– هل يمكنكِ مساعدتي في اختيار كتاب عن "البدايات الجديدة"؟
ابتسمت بخفة وقالت:
– ربما أنت من سيساعدني هذه المرة.
ضحك الاثنان، وبدأ بينهما حديث بسيط تحول مع الوقت إلى صداقة، ثم إلى قصة مختلفة، لا تشبه ما مضى.
كانت ليلى حذرة، لكنها لم تكن خائفة. كانت تعرف أن الحب هذه المرة ليس وعداً بالبقاء، بل احتراماً للرحيل إن فقدت الأمور معناها.
في تلك الليلة، عادت إلى غرفتها، جلست أمام نافذتها ذاتها، ونظرت إلى المدينة.
همست لنفسها:
"يتطلب الأمر الكثير من الشجاعة للبدء من جديد، والكثير من القوة للتخلي عن الماضي، والكثير من الحب للبقاء حين يكون البقاء جميلاً، لكن الأهم أن نحمل الكرامة معنا دائماً، فهي التي تذكّرنا من نكون."
ثم أغلقت النافذة وابتسمت، فهذه المرة لم تكن تهرب من أحد، بل كانت تعود إلى نفسها.
في صباحٍ جديد، استيقظت ليلى على ضوء الشمس يتسلل بخفة إلى غرفتها، كأنه يربّت على قلبها ليقول: "ها أنتِ بخير."
ارتدت فستانًا بسيطًا وخرجت إلى عملها في المكتبة، تلك المكان الذي صار وطنها الصغير، ومصدر سكينتها.
دخل الشاب ذاته مجددًا، يحمل بين يديه كتابًا مختلفًا هذه المرة — "عن الشفاء بعد الفقد". ابتسم حين رآها وقال:
– "أظن أني وجدت الكتاب الذي كنت أحتاجه… وربما الشخص أيضًا."
ارتبكت ليلى للحظة، ثم ردت بابتسامة هادئة:
– "الشفاء لا يحتاج إلى كتاب فقط، بل إلى صدق النية."
مرت الأيام، وتكررت الزيارات. صار الحديث أطول، والضحك أكثر دفئًا. لم يكن بينهما وعود، فقط حضور صادق يملأ المسافة بين الكلمات.
كانت ليلى تخاف أن تُعيد أخطاء الماضي، لكنها أدركت أن هذا الخوف جزء من الشفاء نفسه.
في إحدى الأمسيات، قال لها:
– "أحب فيكِ أنكِ لا تبحثين عن أحدٍ يكملكِ، بل تعرفين أنكِ مكتملة."
حينها فقط، شعرت ليلى أن رحلتها لم تكن عن الفقد، بل عن الاكتشاف — اكتشاف نفسها من جديد.
ونظرت إليه بابتسامة صافية وقالت:
"ربما الحياة لا تبدأ حين نجد الحب، بل حين نجد أنفسنا وسطه."


تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.