في إحدى زوايا مطبخٍ مضيء بنور الصباح، كان هناك رفٌّ خشبيٌّ جميل، تصطف عليه الأواني اللامعة كجنودٍ من الزجاج. وفي أعلى الرف جلس الكأس البلوري مزهوًّا ببريقه، وبجانبه فنجان القهوة الصغير، بلونه البني الهادئ الذي يحمل في ملامحه وقار المقاهي القديمة.
مرت لحظات من الصمت، يسمع فيها صوت الريح تمر من نافذة المطبخ، وخرير الماء من الحنفية المجاورة، حتى قال الكأس وهو يتأمل انعكاس الضوء على سطحه:
"آه يا صديقي الفنجان... كم هو جميل هذا الصباح، لكنه يجعلني أفكر: من منا أكثر نفعًا للناس؟
أأنا الذي أُملأ بالماء والعصير، أم أنت الذي تملأك القهوة والشاي؟"
ضحك الفنجان ضحكة خفيفة، فيها دفء القهوة وسكون الليل، ثم قال بصوت لطيف:
"أيها الكأس اللامع، إن النفع لا يُقاس بكمية ما نحمله، بل بما نحمله من معنى...
فكم من جرعة صغيرة من القهوة أنعشت قلبًا متعبًا، وأعادت إليه الأمل في صباحٍ جديد!"
ابتسم الكأس، وهزّ جسده الزجاجي فانعكست عليه أشعة الشمس كقوس قزح صغير.
"كلامك جميل يا فنجان، ولكنني أُروِي عطش العطاشى، أحمل الماء البارد في حر الصيف، والعصير الطازج في الولائم، وبدوني لا يستطيع أحد أن يرتوي."
أجاب الفنجان وهو يهزّ أذنه الخزفية بخفة:
"صحيح، أنت تروي الأجساد، أما أنا فأروي الأرواح."
رفع الكأس حاجبيه بدهشة:
"تروي الأرواح؟ وكيف ذلك؟"
ابتسم الفنجان، وقال في نغمةٍ تشبه همس الشعر:
أنا لستُ ماءً يبلّل الحنايا
بل نكهةُ الصبحِ حين تَتَحايا
أنا دفءُ قهوةٍ في يَدَيْ عاشقٍ
ورفيقُ فكرٍ حين ينسابُ ندايا
ثم أكمل قائلاً:
"حين تمتلئ بي القهوة، يجلس الناس متقابلين يتحدثون، يتشاركون الأسرار والضحكات، يبدؤون يومهم بي، فأكون رسول الألفة بينهم."
أطرق الكأس رأسه قليلًا، وكأنه يفكر، ثم قال في صوتٍ واثق:
"ومع ذلك، يا فنجان، أنا لا أعيش للحظةٍ واحدة فقط. يُستخدم الكأس في كل وقت، صباحًا ومساءً، في كل بيت، في الأفراح والمآدب.
أنا كالسماء الواسعة، لا يُستغنى عني."
ابتسم الفنجان وقال وهو يربت على حافة الكأس:
"ربما تكون السماء واسعة، لكنني القمر الذي يُضيء في وقتٍ محدد ليترك أثرًا في الذاكرة.
أتعلم يا صديقي؟ ليست الكثرة دليل القيمة، فكم من لحظةٍ صغيرة تغيّر حياة بأكملها."
في تلك اللحظة، فُتح باب المطبخ، ودخل الطفل آدم يحمل صينيةً صغيرة ليعد الإفطار لأسرته.
مدّ يده إلى الرف، فأخذ الكأس أولًا، ملأه بالعصير ووضعه في منتصف الصينية، ثم التفت نحو الفنجان الصغير، وقال:
"أنت اليوم لجدّي، فهو لا يبدأ صباحه إلا بكوب القهوة."
ابتسم الفنجان في نفسه وقال بصوتٍ خافتٍ لا يسمعه إلا الكأس:
"أرأيت؟ قلت لك إنني أرافق القلوب لا الموائد فقط."
لكن الكأس لم يغضب، بل أجاب بود:
"وأنا أرافق الجميع، حتى الصغار الذين لا يشربون القهوة. لكلٍّ منا مكانه في قلوب الناس."
ثم أضاف بيتين شعريين في نغمةٍ رزينة:
لولا اختلافُ الطَّبعِ ما اتّسعتْ يَدُا
ولا تآلفَ في المدى زجاجُنا
فالكلُّ في بيتِ الحنانِ مقامُهُ
إنْ خدمَ الأيديَ أوْ سَكَنَ المُنى
مرّ النهار، وعاد الكأس والفنجان إلى الرف بعد أن غُسِلا بعناية. كان المساء يقترب، والسماء تصطبغ بحمرة الغروب، فبدأ الكأس حديثًا جديدًا:
"يا فنجان، كنت اليوم جميلًا في يد الجد، رأيت وجهه المبتسم وهو يحتسيك ببطء... بدا عليه الرضا."
قال الفنجان بتواضع:
"ذلك لأن القهوة لا تُقدَّم لمن يستعجل الحياة، بل لمن يتأملها.
أتدري؟ القهوة مثل الصبر، مرّة في البداية، عذبة في النهاية."
هزّ الكأس رأسه إعجابًا، ثم قال:
"أما أنا فأحمل العصير والماء، أكون للطفل الذي يلهو في فناء البيت، أُنعشه حين يتعب.
أنا البساطة بعينها، لا أحتاج طقوسًا أو أوقاتًا محددة."
ردّ الفنجان وهو يبتسم:
"وهذا ما يجعلنا مكملين لبعضنا، لا متنافسين. فكما يحتاج الجسد الماء، تحتاج الروح الدفء، ولكلٍّ منا رسالته."
حين أظلم المطبخ وسكتت الأصوات، عاد الرف إلى سكونه، ولم يبقَ إلا ضوء القمر ينساب عبر النافذة.
تنفّس الكأس عطر الصمت وقال:
"أتدري يا فنجان؟ أحيانًا أحسدك. كل من يراك يربطك بالدفء، بالمزاج الجميل، بالحديث، أما أنا... فلا يراني الناس إلا حين يعطشون."
ضحك الفنجان برقة وقال:
"ولِمَ الحسد؟ من يسقي العطش يُنقذ الحياة، أما أنا فلا أداوي إلا الحنين."
ثم قال بيتًا شعريًا بصوتٍ خافت:
لا تُقلِّلْ مِن نفعِ قطرةِ ماءٍ
فبها يَنبُتُ الوردُ في الصحراءِ
ابتسم الكأس وأجاب ببيتٍ آخر:
ولَولا نَفَسُ القَهوةِ الدافئُ
لظلَّ الصباحُ بلا أنفاسٍ أو بَهاءِ
ضحكا معًا، ثم قال الفنجان:
"يا صديقي، لقد علمتني الأيام أن القيمة ليست في الشكل أو الاستخدام، بل في الأثر الذي نتركه.
نحن الاثنان زجاجٌ، لكننا نحمل معانٍ مختلفة. أنت تُنعش، وأنا أُلهِم."
قال الكأس بتأمل:
"جميل هذا الكلام، وربما هذه هي العبرة التي علينا أن نحفظها لأنفسنا:
كل إناء بما فيه ينضح، فلا أحد بلا فائدة، بل لكلٍّ وقته ومكانه."
وبينما غفت الأواني على الرف، كأنها أطفالٌ نائمة بعد حكايةٍ طويلة، سرت في المطبخ أنغام الحكمة:
في بيتٍ يجمعُنا اختلافُنا
نحنُ زجاجٌ... لكنّ فينا الدُّرَرْ
من يملأُ بالماءِ، أو بالقَهْوَةِ
كلاهما يُحيي القلبَ والبَشَرْ
وفي اليوم التالي، حين أشرقت الشمس مجددًا، جاء الطفل آدم من جديد.
نزلت يداه على الرف ذاته، لكنه هذه المرة اختار الفنجان ليملأه بالحليب الدافئ، وقال مبتسمًا:
"اليوم ستكون فنجان الحليب لأختي الصغيرة!"
ضحك الفنجان، وقال للكأس بسعادة:
"أرأيت؟ اليوم أنا للعطاء لا للحديث فقط!"
فردّ الكأس بسرورٍ أخوي:
"وهكذا هي الدنيا، يا صديقي، لا أحد يُقصى عن الخدمة، بل تتبدّل الأدوار في رحمةٍ وعدل."
ومنذ ذلك اليوم، لم يتباهَ الكأس ببريقه، ولم يفخر الفنجان بنكهته، بل صار كلٌّ منهما يبتسم حين يرى الآخر يُستخدَم، لأنهما أدركا أن الجمال لا يكمُن في الدور، بل في الإخلاص فيه.
وفي الرفّ الصغير في مطبخ بيتٍ دافئ، ظلّ الكأس والفنجان صديقين يتناجيان كل ليلة بأبياتٍ من الحكمة:
إنّ الزجاجَ وإنْ تَبايَنَ لونُهُ
يبقى شفيفَ النورِ في المعنى
ما ضرَّ كأسًا يملأُ بالماءِ إنْ
ملأَ الفُؤادَ الفنجانُ غنى
وهكذا انتهت حكاية الكأس والفنجان...
لكنها لم تنتهِ في القلوب، لأن فيها دروسًا صغيرة عن التعاون، التواضع، والرضا بما نحن عليه.


تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.