بعد أربع وعشرين ساعة | قصة حب - الجزء الاول

Admin
0

بعد أربعٍ وعشرين ساعة فقط من اتفاقهما على الفراق، كانت ميا تجلس على طرف سريرها تحدق في شاشة الهاتف التي ما زالت تُلقي بوميضها على وجهها الباهت من التعب والحنين. كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، والمدينة كلها غارقة في صمت ثقيل، إلا قلبها الذي يضج بالأصوات: صوته، ضحكته، غضبه، وحتى تلك النبرة الرقيقة حين كان يقول: "خلي بالك من نفسك يا ميا".

بعد أربع وعشرين ساعة | قصة حب - الجزء الاول
كتبت له رسالة قصيرة، بعد تردد طويل:
«مساء الخير.. اليوم أختي الصغيرة التي تحبها أكملت عامين، وأخي الذي يكبرها بثلاثة أعوام علمها العد حتى خمسة.. أعلم أننا افترقنا، ولكنني اعتدت أن أشاركك كل شيء، فاستصعب عليّ الأمر.. المعذرة».
ضغطت زر الإرسال، وانتظرت.
تم الاستلام. تمت القراءة.
هكذا ببساطة، كما لو أن شيئًا لم يكن، كما لو أن قلبها لم يُسحق منذ ساعات.
أطفأت الضوء وأغمضت عينيها تحاول أن تُقنع نفسها أن الرسالة لم تكن ضعفًا، بل مجرد عادة قديمة يصعب التخلص منها. لكنها سرعان ما عاتبت نفسها بصوت مسموع: "اللعنة يا ميا.. ما كان عليّ أن أرسل له.. افترقنا ويجب على قلبي أن يفهم هذا".
لكن الهاتف أضاء فجأة، ينبض كقلبٍ ثانٍ في الغرفة، معلنًا استقبال رسالة.
مدت يدها بخفة مرتجفة، وفتحتها بشغف وفضول يشبه الرجفة الأولى للحب.
«مساء النور.. ألم أقل لك إن أختك ملاك؟! أحبها لأنها تربطني بك، ولأنني كلما نظرت إليها أرى طفولتك التي كنت أحلم أن أراك عليها حين كنتِ صغيرة.. أما بعد، فالمشاكل لا تفرقنا بل تزيد الرابط الذي بيننا. أما قبل، فلا تظني أن الأربع والعشرين ساعة مرت عليّ دون التفكير بك. أتقبلين مسامحتي؟»
تجمدت ميا للحظة، ثم تسللت دمعة دافئة إلى وجنتيها، واحتضنت الهاتف إلى صدرها كما تحتضن قلبًا حيًا. تمتمت بصوت خافت كمن يردد تعويذة قديمة: «كما قالت لي جدتي من قبل.. الحب الحقيقي لا يموت».
انطلقت منها تنهيدة طويلة، وكأنها زفرة الروح بعد طول احتباس.
وبينما كانت الرسائل بينهما تعود بتردد، كانت الذكريات تفتح أبوابها بلا استئذان.
تذكرت أول لقاء بينهما، في مقهى صغير على رصيف شارع مزدحم. يومها، كانت ميا تقرأ كتابًا بينما ينتظر هو فنجان قهوته. تبادلت عيناهما نظرة قصيرة، لكنها كانت كافية لتبدأ الحكاية.
قال لها يومها، وهو يبتسم بخجل: «واضح إنك بتحبي الكتب أكتر من الناس».
ضحكت وقالت: «الكتب ما بتكذبش، ودايمًا بتسمعك من غير ما تقاطعك».
ومنذ تلك اللحظة صار نجيب هو الكتاب الذي لم تشأ أن تغلقه أبدًا.
لم يكن الحب بينهما صاخبًا، بل كان دافئًا كقهوة الصباح، هادئًا كالأغاني التي كان يرسلها لها كل مساء. كانت أغنيتهم المفضلة تقول:
«كل ما تقول خلاص، قلبي يرجع يحكي فيك،
كل ما أهرب من الإحساس، يرجع طريقه ليك،
وانا مهما أقول نسيت، بصدق كذبي في عينيك».
كانت تلك الأغنية تشبههما كثيرًا، كل مرة يحاولان فيها الابتعاد، يعودان كأن بين قلبيهما خيطًا من نور يشدّ أحدهما إلى الآخر مهما تاه.
في تلك الليلة بعد الرسائل القصيرة، لم تستطع ميا النوم. ظلت تتقلب في فراشها بينما تذكّرها ذاكرة الهاتف بكل الصور القديمة التي لم تمحها بعد. في كل صورة كان يضحك نجيب، يضع يده على كتفها أو يلتقط صورة لهما وهما يتبادلان النظرات.
همست لنفسها: «لو كان الحب غلط، ليه بيكون جميل كده؟ وليه الوجع بيحمل طعم الحنية؟».
في تلك الأثناء، كان نجيب جالسًا في شرفته، يراقب ضوء المدينة البعيد. هاتفه بين يديه، ووجهه يلمع تحت ضوء القمر. أعاد قراءة رسالتها مرات عديدة، وابتسم. لم يكن يظن أنه سيضعف سريعًا، لكنه أدرك أنه لا يستطيع العيش دون صوتها.
فتح دفتره الصغير الذي يكتب فيه خواطره منذ عرفها، وكتب:
«ميا..
تُركتُ أمام الغياب مثل طفلٍ فقدَ طريق البيت.
كنتِ أنتِ الطريق، والبيت، والطمأنينة.
أربع وعشرون ساعة كانت كفيلة بأن تجعل قلبي يهرم،
فلا تظني أن رجولتي كانت صبرًا، إنها كانت انكسارًا صامتًا».
ثم أضاف سطرًا آخر وكأنه يهمس لها عبر الريح:
«كل ما أطفئ شوقي، تشتعلين أنتِ،
وكل ما أهرب منكِ، أجدني في منتصفك».
في اليوم التالي، تلقت ميا رسالة منه:
«تعالي بكرة على الكافيه القديم، الساعة خمسة.. مش عشان نرجع، بس عشان نفهم اللي حصل».
قرأت الرسالة مرارًا. قلبها يرقص ويخاف في آنٍ واحد.
كتبت له: «مش عايزة نرجع عشان نرجع، عايزة نرجع وإحنا فاهمين بعض».
أرسل بعدها قلبًا صغيرًا وقال: «اتفقنا».
في اليوم التالي، اختارت ميا فستانها البسيط الأزرق الذي كان يحبه. تركت شعرها منسدلًا كما كان يقول دائمًا: «سيبيه كده، بيشبه الغيم».
خرجت من البيت وقلبها ينبض بسرعة خطواتها.
في المقهى، جلس نجيب على الطاولة نفسها، نفس الكرسي، وكأن الزمن دار دورة كاملة ليعيدهما إلى نقطة البدء.
رآها من بعيد، فابتسم، لكنها لم تره في البداية. عندما اقتربت، تبادل الاثنان نظرة طويلة، صامتة، لكنها قالت كل شيء.
جلسا، وبينهما صمت ثقيل مليء بما لم يُقل.
قال هو أولًا: «الأربعة وعشرين ساعة دي كانت أطول من السنة اللي عرفتك فيها».
ضحكت بخفة وقالت: «وأنا كنت بعدّ كل دقيقة، مش عارفة أعمل إيه بنفسي».
قال وهو ينظر في عينيها مباشرة: «ميا، أنا غلطت لما سمحت للزعل يكبر بينا.. يمكن كنت محتاج أتعلم إزاي أسمعك من غير ما أرد».
قالت وهي تعبث بيدها في فنجان القهوة: «ونحن غلطنا لما فكرنا إن البُعد ممكن يريحنا».
توقف لحظة ثم تمتم: «كل اللي كان ناقص إننا نفتكر ليه حبينا بعض».
أجابت بصوت مبحوح بالعاطفة: «علشان كنت أول حد حس بيا من غير ما أتكلم».
ساد الصمت مرة أخرى، لكن هذه المرة كان صمتًا دافئًا، يشبه اللحظة التي يسبق فيها العناق.
ثم أخرج نجيب هاتفه وقال لها: «فاكرة الأغنية دي؟» وشغّلها بصوت خافت:
«تعالي نبدأ من جديد، ننسى اللي فات ونحلم كده،
الدنيا حلوة لما نعيد، وعد الغرام من أولّه».
ابتسمت وقالت: «لسه حافظها!».
قال: «هي دي الأغنية اللي ما قدرتش أسمعها من غير ما أفتكرك».
ثم نظر إليها طويلاً، وقال: «تعرفي يا ميا.. الحب الحقيقي مش اللي ما بيزعلش، الحب الحقيقي هو اللي بيرجع بعد الزعل».
نظرت إليه بعينيها اللامعتين وقالت: «وأنا رجعت خلاص».

(يتبع في الجزء الثاني – حيث تمتد الذكريات والاعترافات، ويتحول اللقاء إلى عودة صادقة بعد الفراق، مع مقاطع شعر وغناء جديدة تعبّر عن ولادة الحب من جديد).....

أقراء الجزء الثاني من القصة

 

قسم

إرسال تعليق

0 تعليقات

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.

إرسال تعليق (0)
3/related/default