دفاتر الأيام… حين يتحدث الصمت - قصة عن العلاقات التي غيرتنا

Admin
0

كان المساء ساكنًا إلا من صوت الريح وهي تلامس نافذته القديمة، تلك النافذة التي شهدت كثيرًا من لحظات وحدته وفرحه، وكم كانت شاهدة على أسراره الصغيرة التي لم يبح بها لأحد. جلس “عادل” على كرسيه الخشبي المتآكل، واضعًا أمامه كوب الشاي الذي نسي أن يشربه منذ أن برد، وعلى الطاولة دفتر قديم ذو غلاف باهت كتب عليه بخط متعرج: "ذكريات لا تموت".

دفاتر الأيام… حين يتحدث الصمت

فتح الدفتر ببطء، كمن يفتح بوابة إلى عالم قديم كان يهرب منه طيلة سنوات. تناثرت من بين الصفحات صورٌ صفراء وعبارات كتبت على عجل، وأسماء لأشخاص مضوا من حياته منذ زمن بعيد. شعر وكأنه يسمع أصواتهم تتردد بين السطور، ويشم رائحة الأيام التي مضت، يوم كان شابًا يافعًا يملؤه الأمل، قبل أن تصقله الخيبات وتصنع منه رجلًا يعرف قيمة الصمت أكثر من الكلام.

كانت أولى الصفحات تحوي رسالة من صديقه القديم “مروان”، كتبها له في عامٍ بعيد:

“عادل، لا تدع الناس تغيّرك، كن كما أنت، نقيًّا كما عرفتك.”

ابتسم وهو يقرأ الرسالة، ثم مرر أصابعه على الخط وكأنه يلمس يد صاحبه. تذكر كيف كان مروان أول من مد له يد العون حين ضاقت به الحياة، وكيف وقف بجانبه يوم تخلى الجميع عنه، ثم رحل فجأة دون وداع، تاركًا في قلبه فراغًا لا يُملأ.

تنهيدة طويلة خرجت من صدره، وكأنها تحمل ثقل السنين. قال بصوت خافت كأنه يخاطب نفسه:

"عندما يجلس الإنسان مع نفسه ويُراجع دفاتر أيامه، يجد فيها أشكالًا وألوانًا من البشر... منهم من مدّ له يدًا تُنقذه في ساعة محنة، ومنهم من دفعه بأخرى إلى مصير مؤلم."

توقف قليلًا، وكأن كلماته أيقظت في داخله شيئًا كان نائمًا. أخذ يقلب الصفحات، فظهرت أمامه وجوه كثيرة.
وجوه ابتسمت له يومًا، ثم اختفت عندما أظلمت أيامه.
وجوهٍ كانت تبدو صادقة، لكنها تركت خلفها جرحًا لا يُرى بالعين، بل يُحسّ بالقلب.
وجوهٍ أخرى رحلت بهدوء، لكنها بقيت محفورة في أعماقه كالنور الذي لا ينطفئ.

تذكر “ندى”، تلك الفتاة التي أحبها في بدايات شبابه. كانت بسيطة كنسمة ربيعية، تشبه النقاء ذاته. أحبها بصدق، لكنه كان فقيرًا، وهي كانت تحلم بعالمٍ أكبر من أحلامه الصغيرة. رحلت عنه في صمت، تاركة له وعدًا لم يتحقق أبدًا.
كتب يومها في دفتره:

“أحيانًا لا يكون الفراق خيانة، بل خوفًا من الغد.”

أغلق عينيه لحظة، وشعر أن قلبه ما زال يحمل شيئًا منها رغم مرور السنين. تذكر كيف علمته أن الحب ليس وعدًا دائمًا، بل لحظة نقاء عابرة في عمرٍ مليء بالتناقضات. ثم قال في نفسه وهو يعود إلى قراءة عباراته القديمة:

"سوف تكتشف وأنت تراجع دفاتر أيامك أن هناك من غرس في أرضك شجرة، وأن الشجرة كبرت وصار لها ظلال وثمار... وستكتشف أيضًا أن هناك من غرس في قلبك سهمًا!"

ضحك عادل بخفوت، ضحكة امتزج فيها الحزن بالرضا، وقال:

"نعم، بعضهم غرس في قلبي شجرة لا تذبل، وبعضهم ترك فيّ سهامًا لم تخرج حتى الآن."

رفع رأسه ونظر إلى السقف الذي غطته تشققات الزمن، فشعر أن حياته تشبه هذا السقف تمامًا، مملوءة بالندوب لكنها ما زالت قائمة.
تذكر صديقه “سامي”، الذي خانه في لحظة ضعف. كان شريكه في العمل، وصديقه الأقرب، لكنه باعه مقابل مصلحة صغيرة. يومها تعلم أن الخيانة لا تأتي من الغريب، بل ممن كنا نظنهم جزءًا من أنفسنا.

كتب في إحدى صفحات الدفتر:

“البعض يطعنك بخنجر، لكن الطعنة التي تأتي من الخلف هي الأشد، لأنها تأتي من يدٍ كنت تصافحها بالأمس.”

قرأها اليوم وضحك في مرارة، فقد سامي منذ زمن، لكنه لم ينسَ الدرس. أدرك أن الحياة لا تعطي الدروس مجانًا، وأن كل خيبة تحمل في طياتها حكمة، حتى وإن جاءت بثمنٍ باهظ.

وبينما كان يتصفح الصفحات الأخيرة من الدفتر، توقفت عيناه عند فقرة كتبها ذات ليلة طويلة، عندما فقد والدته التي كانت سنده في الحياة:

“أمي... كنتِ النور الذي لا ينطفئ، والدفء الذي لا يُعوّض. بعدكِ صار كل شيء باهتًا، حتى الشروق لم يعد جميلاً كما كان.”

شعر بغصة في حلقه، ودمعة ساخنة انزلقت على خده دون استئذان. تلك الفقدات القديمة ما زالت تسكن داخله كبيوت مهجورة، لا تزورها إلا الذكريات.

ثم أغلق الدفتر للحظة وقال وكأنه يحدث روحه:

“البعض يترك لك رصيدًا غاليًا من الذكريات، كلما التفتّ حولك وجدت منه دائمًا شيئًا جميلاً يُحيط بك، والبعض الآخر لا يترك لك سوى الأسى. ولهذا لن يكون غريبًا عليك أن ترحل من ذاكرتك عشرات الوجوه... وتختفي عشرات العناوين وتتلاشى ملامح كثيرة، لكن تبقى أمامك بعض الوجوه التي لا تفارق عينيك أبدًا... تلك التي كلما تذكرتها ابتسمت.”

كان يبتسم فعلاً، وهو يتذكر وجه أمه، ومروان، وبعض من عرفهم وتركوا أثرًا طيبًا في قلبه.
شعر بشيء من السكينة يملأ صدره، كأنما التصالح مع الماضي يداوي جراحًا قديمة لم يكن الزمن قادرًا على مداواتها.

أشعل سيجارة، رغم أنه ترك التدخين منذ سنوات. لم يكن بحاجة إلى الدخان، بل إلى رفيق لحظته تلك، رفيقٍ لا يسأله، ولا يحكم عليه. قال بصوت منخفض:

"عجيب هذا القلب... كم يحتمل من الخذلان، وكم ينهض من رماده كأنه لم يُكسر قط."

عاد إلى دفتره وكتب بخطٍ جديد:

“تعلمت أن أُحب دون أن أتعلق، وأعطي دون انتظار، وأغفر دون ندم. لأن كل إنسانٍ مرّ بحياتي، جاء ليعلمني درسًا، مهما كان مؤلمًا.”

ثم رفع رأسه إلى السماء وقال:

"يا رب، شكرًا على كل من رحل، وكل من بقي. فحتى الرحيل أحيانًا رحمة."

كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، والمدينة غارقة في صمتٍ يشبه السكينة. أطفأ المصباح، وأغلق الدفتر برفق، ثم وضعه على الرف بجانب كتب قديمة. شعر أنه أخيرًا أغلق صفحة، لا من الورق بل من حياته.

لكن قبل أن يغفو، خطر بباله خاطرٌ غريب، فقال مبتسمًا:

“ربما لو لم يخذلني بعضهم، لما عرفت قيمة الصادقين. ولو لم أتألم، لما عرفت كيف أُحبّ بصدق.”

ثم أغمض عينيه، وفي ذهنه آخر عبارة كتبها قبل أن ينام:

“ليست كل الذكريات وجعًا، فبعضها دواء، وبعضها نور، وبعضها جسرٌ يعيدنا لأنفسنا من جديد.”

إرسال تعليق

0 تعليقات

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.

إرسال تعليق (0)
3/related/default