بعد أربع وعشرين ساعة | قصة حب - الجزء الثاني

Admin
0

الجزء الثاني من القصة: "بعد أربعٍ وعشرين ساعة"

جلسا صامتين لبرهةٍ في ذلك المقهى الذي شهد بدايتهما، حتى بدا وكأن الهواء نفسه يعرف ما بينهما من حكايات. العيون تتحدث، والأكواب الباردة أمامهما تذوب مثل ما ذابت المسافات. نجيب مدّ يده ببطء نحو يدها، لم يمسكها تمامًا، فقط لامس أطراف أصابعها، كأنه يستأذن العودة. لم تسحب يدها، لكنها لم ترفع عينيها إليه أيضًا، كانت تخشى أن يرى في عينيها كل ما حاولت إخفاءه من اشتياق. قال بهدوءٍ يشبه الاعتراف: "ميا، أنا ما كنتش قوي زي ما كنت بقول. طول اليوم اللي بعد الفراق كنت بحاول أضحك قدام الناس، بس أول ما بروح البيت كنت بسمع صوتك في كل حاجة، حتى المية وهي بتغلي في الغلاية كانت بتحكي عنك". ضحكت بخفة، دمعة صغيرة علقت على رمشها، وقالت بصوت منخفض: "وأنا كنت بفتح الشباك كل شوية، يمكن أشم ريحة وجودك، كنت حاسة إن الهوا اللي بيعدي من الشارع شايل حاجة منك".

بعد أربع وعشرين ساعة | قصة حب - الجزء الثاني

اقترب أكثر وقال: "ميا، أنا مش عايز نرجع زي ما كنا، أنا عايز نرجع أحسن، نعيش بهدوء من غير خوف، من غير زعل صغير يكبر بينا". هزت رأسها بخفة وقالت: "وأنا كمان، نفسي نعيش كل يوم كأنه بداية جديدة". ثم أضافت بابتسامة صغيرة: "بس عايزة وعد".
سألها: "وعد بإيه؟"
قالت: "وعد إننا ما نسيبش الكلام في قلوبنا، نحكي حتى لو وجع".
ابتسم وقال: "وعد".

صمتا قليلًا، ثم أضاف نجيب وكأنه يغني بصوت خافتٍ من لحنٍ ارتجله للتو:
"يا حبيبتي، لو يوم نسينا ليه ابتدينا،
افكريني بضحكتِك، بعيونك اللي حنّينا،
خلي الحنين دايمًا دليلنا،
حتى لما الدنيا تنسانا".

ضحكت وقالت: "لسه بتكتب أغاني في لحظتها زي زمان!"
قال: "وانتِ لسه ملهمتي".
قالت بخجل: "كفاية كلامك دا، مش عايزة أعيط قدام الناس".
قال وهو ينظر إليها بشوقٍ صادق: "ابكي، يمكن الدموع دي تطهر كل وجع الأيام اللي فاتت".

مرت لحظات طويلة من الصمت، لكنها لم تكن صمتًا بارداً، بل صمتًا دافئاً مليئاً بالسكينة. شعرت ميا للمرة الأولى منذ شهور أن قلبها عاد ينبض بطريقة صحيحة. سألها فجأة: "فاكرة أول مرة قلتلك بحبك؟"
ابتسمت: "أكيد، كنتَ بتتلكك عشان تقولها. كنت بتسألني: بتحبي المطر؟ بتحبي البحر؟ بتحبي القهوة؟ وأنا عارفة إن السؤال الجاي هيكون بتحبيّني؟"
ضحك نجيب وقال: "كنت خايف تضحكي عليّ".
قالت: "كنت حاسة، بس كنت مستنياك تقولها".
قال: "وبعدها الدنيا كلها اتغيرت".
قالت: "أيوه، حتى شكل الأيام بقى له معنى".

في تلك اللحظة، مرّت نسمة خفيفة على وجهيهما، وكأن الهواء نفسه يبارك ما بينهما من صفاء جديد. نظر إليها نجيب طويلاً وقال: "كل مرة كنتِ بتزعلي فيها، كنت بحس إن قلبي بيضيع مني، بس المرة دي لما افترقنا، حسّيت فعلاً إن قلبي بطل يدق".
قالت: "وأنا، كنت بحس إن اليوم ناقص حاجة، حتى لما كنت بضحك كنت بضحك بنصّي التاني المكسور".
قال: "يمكن ربنا كان عايزنا نعرف قيمة وجودنا في حياة بعض".

ثم أخرج من جيبه ورقة صغيرة مهترئة، كانت مطوية بعناية. قال: "دي آخر حاجة كتبتها وأنا زعلان منك، كنت ناوي أمزقها، بس خبيتها، يمكن لأن جواها صدق كبير". فتح الورقة وقرأ بصوتٍ خافتٍ:
"ميا..
لو سألني الليل عنك، هاقوله لسه هنا،
لسه الندى بيحكي عن ضحكتك،
ولسه الحنين بينام على طرف وسادتي،
لسه كل شيء بيفتّح لما أقول اسمك".
ثم توقف وقال: "كنت فاكرها نهاية، بس طلعت بداية جديدة".
وضعت يدها فوق يده وقالت: "أنا كمان كنت بكتبلك، كل يوم في مذكرتي، أقول لنفسي يمكن يوم نرجع وتسمع الكلام ده".
سألها بشغف: "تحبي تقريلي؟"
قالت بخجل وهي تفتح تطبيق الملاحظات في هاتفها: "مش كلها، بس دي أقرب حاجة لقلبي". قرأت بصوتٍ مرتعشٍ:
"نجيب، أنا بحاول أعيش من غيرك، بس كل حاجة بتفكرني بيك، حتى الوقت اللي بقضيه بعيد بيقيس المسافة بيني وبينك مش بالدقايق، لكن بالدقات اللي نقصت من قلبي".
رفع عينيه نحوها وقال: "لو كنتِ قولتيلي الكلام ده من يومين، ما كنتش قدرت أستنى لحظة".
قالت: "كان لازم نفهم يعني إيه نخسر، عشان نعرف نحافظ لما نكسب".

اقترب منها أكثر، وكأن المسافة بينهما لم تعد تعني شيئًا. قال وهو يبتسم بخفة: "ميا، تعالي نبدأ من النقطة اللي وقفنا عندها، من هنا بالضبط".
قالت: "بس المرة دي، ما يكونش في وعود كبيرة، نعيش كل يوم على قد جماله".
قال: "على قد جمالك يعني؟"
ضحكت وقالت: "كفاية غزل، الناس بتبص".
قال: "خليهم يشوفوا إن الحب لسه عايش".

ثم رفع هاتفه والتقط لهما صورة، قالت: "ليه صورتنا؟"
قال: "عشان بعد سنين لما نزعل، نفتكر اللحظة دي ونضحك بدل ما نبكي".
قالت: "وعد إنك كل مرة نزعل فيها، تبص في الصورة دي قبل ما تهاجر".
قال: "وعد".

نهضا من المقهى يسيران ببطء، كأن كل خطوة تُعيد ترتيب الحكاية من جديد. الشارع مزدحم، لكن العالم من حولهما بدا صغيرًا جدًا، محصورًا في نظراتهما فقط. مرّا بجانب محلٍ صغير يبيع الزهور، فاشترى نجيب وردة حمراء ومدها لها قائلاً: "عارفة ليه بديكي وردة واحدة؟ لأنك الورد كله في حياتي".
قالت وهي تضحك: "كنت هقولك الجملة دي بايخة، بس طلعت جميلة منك".
قال: "كل حاجة بتكون حلوة لما تكوني فيها".

سارا حتى وصلا إلى المكان الذي كانا يقفان فيه ذات يوم وهما يتحدثان عن أحلامهما. كان الشارع هادئًا، وأضواء الغروب تذيب كل ما تبقى من ألم. قال نجيب: "فاكرة لما قلتلك نفسي نسافر سوا ونبدأ من جديد؟"
قالت: "أيوه، ووقتها ضحكت وقلتلي خلينا نبدأ هنا الأول".
قال: "دلوقتي جاهز أبدأ من هنا، من دلوقتي".

اقترب منها وأمسك يديها الاثنتين، نظر في عينيها بعمقٍ وصدقٍ وقال: "أنا بحبك، مش عشانك بس، بحبك لأنك بتخليني أحب نفسي وأنا معاكي".
دمعت عيناها وقالت: "وأنا بحبك لأنك بتفكرني إن الدنيا لسه فيها أمان".
ثم قال بخفوتٍ أقرب للغناء، صوته يرتجف بالحب:
"ميا، يا نسمة بتداوي الجراح،
يا دفء في عزّ الرياح،
عودي لقلبٍ ضاع في خطاه،
خلّيه يعيش من تاني الحياة".
ردت عليه وهي تهمس:
"نجيب، يا عمر ما يكمل إلا بيك،
يا فرحة ضاعت ولقيت طريق،
وعدني مهما البعد جه يوم،
ترجعلي قبل ما أقول ضيق".

ابتسم كلاهما، وتلاقت نظراتهما كما لو أن الزمان توقف ليصفّق لهما. لحظتها شعر نجيب أن كل ما في الدنيا عاد إلى مكانه الصحيح.
قالت وهي تمسح دموعها: "جدتي كانت دايمًا تقول: الحب الحقيقي ما يموتش".
قال: "وجدتي كانت تقول: اللي خلق القلب خلقله طريق يرجع بيه دايمًا".
ضحكت وقالت: "يمكن جداتنا كانوا بيحكوا نفس القصة، بس بأسماء مختلفة".

ثم سار بها نجيب نحو البحر، كان الغروب يلوّن الأفق بلونٍ يشبه الحنين. وقف بجانبها وقال: "شوفتِ؟ البحر بيشبهنا، بيهدأ من فوق، لكن جواه ألف موجة بتتخانق عشان تفضل قريبة".
قالت: "وأنا بحب الموج، عشان مهما رجع لورا، بيرجع تاني للشاطئ اللي بيحبه".

ظلّا واقفين هناك طويلاً، يتحدثان عن الماضي وكأنهما يطويانه بهدوءٍ جميل. لم يكن بينهما صراع ولا دموع هذه المرة، فقط طمأنينة عميقة تشبه البيت.

قال نجيب أخيرًا: "ميا، تعالي نكتب عهد بسيط، من غير ورق ولا شهود، بس بيني وبينك".
قالت: "قول".
قال: "نتعاهد إننا نحب ببساطة، نغفر بسرعة، وننسى الغلط قبل ما ينام بينا".
قالت: "وإننا كل يوم نختار بعض من جديد، حتى لو الدنيا حاولت تفرّقنا".
قال: "اتفقنا".

ثم أمسك بيدها، وسارا على الرمال الباردة، خطواتهما تتداخل مع صوت الموج. وفي قلب الليل، أرسل لها رسالة صغيرة وهو إلى جوارها، كأنه يختم الحكاية التي بدأت برسالة قبل يومٍ واحد فقط:
«مساء الخير يا أجمل بداية،
مرّ يوم واحد بين فراقنا وعودتنا، لكنه كان كعمرٍ كاملٍ من الشوق.
خلينا نسيب الأيام تمشي على مهلاها، طالما قلوبنا ماشية مع بعض».

قرأت الرسالة وهي تبتسم، وقالت بهدوءٍ: "تم الاستلام.. تمت القراءة.. وتم الحُب من جديد".

وهكذا، بعد أربعٍ وعشرين ساعة من الفراق، عاد الحُب ليُعلّم ميا ونجيب أن ما يُكتب بالصدق لا يُمحى، وأن بعض الحكايات لا تنتهي، بل تعود كلما تنفّس القلب شوقًا جديدًا.

💕 النهاية 💕 

أقراء الجزء الاول من القصة

قسم

إرسال تعليق

0 تعليقات

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.

إرسال تعليق (0)
3/related/default