لم أكن أدرك وأنا صغيرة أن الفقر ليس أقسى ما قد يمرّ به الإنسان، بل الفقد. كنت أظن أن العوز هو الغصة الكبرى في الحياة، وأن الأيام ستلين إن وجدنا المال الكافي لنعيش مثل الآخرين، لكنني كنت مخطئة.
كل شيء تغيّر في اللحظة التي رحل فيها أبي.أبي… الرجل الذي كان بالنسبة لي العالم بأكمله، كان هو دفئي حين يشتد البرد، وهو ضحكتي حين أتعثر، وهو قوت يومي ومعنى أيامي. بعد رحيله، شعرت أن الحياة انتزعت مني شيئًا لا يمكن تعويضه، كأنها أخذت روحي وتركَت جسدي يسير على الأرض بلا وجهة.
أتذكر تلك الليلة بوضوح مؤلم. كنت أجلس بجانبه، أراقب أنفاسه الثقيلة وهي تتباطأ شيئًا فشيئًا. كنت أضع يدي الصغيرة فوق صدره، أتحسس نبضه الذي بدأ يختفي، حتى توقف تمامًا. لم أصرخ، لم أبكِ في اللحظة الأولى، فقط شعرت بفراغٍ عميق، كأن صوت العالم اختفى فجأة.
ثم انهرت… بكيت كمن فقد قلبه، وصرخت باسمه مرارًا، لعلّه يسمعني ويعود. لكن أبي لم يعد.
دفنّاه في صباح بارد، وكنت أنا الوحيدة من بين الجمع التي لم أستطع المشي جيدًا من شدة الارتجاف. لم يكن البرد ما يهزني، بل الخوف… الخوف من الغد ومن الوحدة ومن الجوع الذي كنت أراه قادمًا نحوي بخطوات بطيئة ولكن ثابتة.
بعد الدفن، عدت إلى البيت الذي أصبح فارغًا من روحه. جلست على الأريكة التي كان يجلس عليها، وضعت رأسي في المكان الذي كان يسند رأسه عليه، وشعرت بدموعي تغسل القماش.
كل شيء في البيت كان يذكرني به: المقص الصغير الذي كان يستخدمه في الحلاقة، كرسيه الخشبي، حتى الكوب المكسور الذي كان يرفض رميه لأنه "ما زال ينفع".
في تلك الليلة، لم أنم. جلست أمام نافذتنا الصغيرة أتأمل القمر وأتحدث إليه كما لو كان أبي يستمع لي من مكان بعيد. قلت له:
"بابا، أنا خائفة… ما بعرف شو أعمل بعدك. الدنيا كبيرة وأنا صغيرة، بس رح حاول أكون قوية مثل ما علمتني."
مرت الأيام ببطء قاتل. كنت أعيش على ما تبقّى من مال بسيط كان يحتفظ به أبي. لم يكن كافيًا سوى لأسابيع قليلة، وبعدها بدأت الحقيقة تظهر أمامي كوحش لا يمكن تجاهله.
لم أكن أملك مهارة ولا شهادة، فقط فتاة صغيرة بالكاد أنهت الابتدائية، تعيش في قرية لا ترحم الفقراء.
بدأت أبحث عن عمل. عرضت مساعدتي على جاراتي في تنظيف البيوت مقابل القليل من المال، وكنت أحيانًا أبيع بعض الخضروات البسيطة التي أشتريها من السوق لأربح شيئًا بسيطًا. لم يكن الأمر سهلاً، لكني كنت أسمع في داخلي صوت أبي يقول:
"الكرامة قبل كل شيء يا لمى… لا تمدّي يدك لأحد، اشتغلي مهما كان العمل بسيط."
كنت أستيقظ مع الفجر، أرتب البيت الصغير، وأذهب لأبدأ يومي بين أعمال التنظيف أو البيع في السوق. كنت أعود متعبة، لكنني أشعر ببعض الرضا أنني ما زلت أعيش دون أن أحتاج أحدًا.
في أحد الأيام، وبينما كنت أبيع الخضروات أمام باب السوق، جاءني رجل غريب بملابس أنيقة. سألني إن كنت أحتاج عملًا دائمًا في المدينة. شعرت ببصيص أمل، لكنه سرعان ما تحول إلى خوف عندما لاحظت نظرته الغريبة وطريقته المريبة في الكلام.
قال لي إنه يمكنني أن أعمل في مطعم "راقٍ"، ولكن بشرط أن أكون "لطيفة مع الزبائن".
لم أكن غبية، فهمت قصده فورًا. رفعت وجهي وقلت له بثبات:
"أنا بنت رجل علّمني الشرف قبل الخبز، خذ عرضك واذهب من هنا."
تغير وجهه، ثم ضحك بسخرية وقال:
"راح تندمي يا بنت الفقير، العالم ما يرحم."
غادر، لكن كلماته ظلت ترنّ في أذني أيامًا طويلة. ربما كان على حق، فالعالم فعلاً لا يرحم، لكن أبي كان يقول دائمًا: "اللي يحافظ على نفسه، الله ما بيضيّعه."
في أحد الأيام الممطرة، كنت أبيع بعض أوراق النعناع أمام المدرسة القريبة. اقتربت مني سيدة أنيقة وابتسمت لي. سألتني:
"اسمك يا صغيرة؟"
قلت: "لمى."
قالت: "ليش ما بتدرسي؟ المفروض تكوني جوّا المدرسة مش برّاها."
أخفضت رأسي وقلت بخجل:
"ما في حدا يصرف عليّ، أبوي مات، وأنا لازم أشتغل."
ظلت تنظر إليّ بعينين مليئتين بالشفقة، ثم قالت:
"أنا مديرة المدرسة، تعالي لعندي بكرا، بدي أساعدك."
لم أصدق في البداية. اعتقدت أنها مجرد كلمات عابرة، لكن في اليوم التالي ذهبت إليها بتردد. استقبلتني بحنان أمّ لم أنل مثله منذ رحيل أبي، وسألتني عن قصتي كاملة. بعد أن سمعتها، قالت:
"رح نسجلك بالمدرسة، والدراسة علينا، بس بدك توعديني تدرسي منيح."
بكيت، لم أجد كلمات تليق بالشكر. ومن يومها، بدأت مرحلة جديدة في حياتي.
عدت إلى الدراسة بعد انقطاع، وكان الأمر صعبًا في البداية. شعرت أني غريبة بين زميلات يملكن دفاتر جديدة وحقائب جميلة، بينما أنا أستخدم حقيبة قديمة ومهترئة.
لكنني كنت أردد في داخلي دائمًا: "أنا ما بدي أكون مثلهم، أنا بدي أكون أفضل."
كنت أدرس في النهار وأعمل في المساء في أحد المحلات الصغيرة التي تبيع الخبز. كنت أعود متعبة جدًا، لكن في كل مرة أفتح كتابي، كنت أرى وجه أبي يبتسم لي من بين الصفحات.
مرت السنوات، وبدأت علاماتي تتحسن، حتى تفوقت في الثانوية، فحصلت على منحة دراسية في جامعة المدينة الكبرى.
يومها، شعرت أن العالم يصفق لي، أن الله لم ينسَ تلك الطفلة التي بكت وحيدة بجانب قبر أبيها.
المدينة كانت مختلفة تمامًا عن قريتي. الناس لا يعرفون بعضهم، والوجوه تمر كأنها لا ترى أحدًا. في البداية شعرت بالغربة والخوف، لكني تمسكت بالحلم. درست التربية لأنني كنت أريد أن أكون معلمة، تمامًا مثل تلك المديرة التي مدّت لي يد العون في أحلك ظروفي.
في الجامعة، واجهت مواقف كثيرة جعلتني أنضج أكثر. كان هناك من يسخر من ملابسي البسيطة، ومن يحاول التقرب مني بدافع الشفقة أو الإعجاب. لكنني كنت أضع حدودي دائمًا، وأتذكر وصية أبي:
"خلي احترامك لنفسك أكبر من حب الناس إلك."
كنت أعمل مساءً في مطعم صغير أغسل الصحون لأؤمن مصاريفي. كان الأمر مرهقًا، لكنني كنت فخورة أن كل قرش أدفعه في تعليمي يأتي من عرقي.
مرت أربع سنوات طويلة، تخللتها دموع كثيرة وليالٍ بلا نوم، لكن يوم التخرج عوّضني عن كل شيء. حين سمعت اسمي يُنادى، واعتليت المنصة لأستلم شهادتي، شعرت أن أبي يقف هناك في الصفوف الخلفية، يصفق لي بفخر.
رفعت شهادتي للسماء وقلت في قلبي:
"بابا، نجحت... متل ما وعدتك."
بعد التخرج، حصلت على وظيفة معلمة في مدرسة قريتنا نفسها. عدت إليها بعد غياب طويل، لكن هذه المرة لم أكن الطفلة التي تبيع النعناع، بل المعلمة التي تعلم الأطفال أن يحلموا، حتى لو كانت حياتهم صعبة مثل حياتي.
في كل صباح، حين أدخل الصف وأرى وجوه الأطفال، أشعر أن أبي معي. أحيانًا أتخيله جالسًا على مقعد في آخر الصف، يبتسم لي كما كان يفعل عندما كنت أقرأ له في البيت.
علمت الأطفال أن اللقمة لا تأتي بسهولة، وأن الشجاعة ليست في القوة، بل في الصبر. كنت أروي لهم قصصًا من حياتي دون أن أذكر أن البطلة هي أنا، لكن بعضهم كان يدرك ذلك من دموعي التي تظهر فجأة حين أتكلم.
في نهاية كل عام دراسي، أزور قبر أبي وأجلس بجانبه وأقول:
"بابا، أنا بخير. يمكن الدنيا قست عليّ، بس علّمتني كتير. لسه بشتغل، ولسه بحاول أكون أحسن. لو كنت هون كنت رح تفرح فيني."
كبرت، وتغيّرت حياتي كثيرًا. لم أعد تلك الطفلة الفقيرة التي تنظر بحسد إلى فتاة في سيارة فاخرة. أدركت أن الرفاهية لا تُقاس بما نملك، بل بما نشعر به ونحن نحصل عليه بكرامة.
تعلمت أن "لقمة العيش" ليست فقط الخبز الذي نأكله، بل هي الكفاح، والعزيمة، والرضا. اللقمة التي تأتي بعرق الجبين تُشبع القلب قبل المعدة، وتجعل الإنسان يمشي مرفوع الرأس حتى لو كانت جيوبه فارغة.
اليوم، حين أرى طلابي الصغار يواجهون الصعوبات، أبتسم وأقول لهم:
"ما في شي اسمه مستحيل، طالما في قلبك ضوء صغير اسمه الأمل."

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.