العشق... والأمان كان المساء ساكنًا، كأن المدينة كلها تستمع لصوت البحر وهو يتحدث إلى الشاطئ، يتوسل إليه ألّا يبتعد كثيرًا... وفي مقهى صغير على زاوية الطريق، كانت تجلس هي، تحتسي قهوتها ببطء، بينما عيناها تبحثان عنه بين كل الوجوه العابرة.
دخل بخطوات واثقة، لكن عينيه كانت تائهة... تائهة نحوها فقط.
اقترب منها، جلس، تنفس بعمق، وكأنه جاء من معركة طويلة وانتهت للتو، ثم قال:
– "قالوا لي: العشق، فقلت... سؤال ناقص."
نظرت إليه بدهشة، فابتسم وأكمل:
– "قالوا لي: ما أعظم من العشق؟"
– "فأجبتهم، لكن بطريقتي..."
ثم أمسك بيديها، ونظر في عينيها مباشرة، وقال:
– "الأمان."
صمتت قليلاً، تلك الكلمة لم تكن غريبة، لكنها حين خرجت من فمه بدت وكأنها المعنى الكامل للحياة.
قالت:
– "أمان؟ كأنك تتحدث عن شيء لا نراه، لا نلمسه، لكنه يجعلنا نبكي حين نفتقده ونطمئن حين نشعر به..."
هزّ رأسه موافقًا، ثم قال بهدوء:
– "أن نغضب ونثور وقد نتخاصم، أن تصرخين في وجهي، وأدير لكِ ظهري... ولكن رغم كل ذلك، نعلم أن كل هذا سينتهي، وأننا سنعود، وسنظل نحن، على عهدنا، بنفس الحب، وبنفس الود... أليس هذا هو الأمان؟"
أغمضت عينيها للحظة، شعرت أن شيئًا ما بداخلها ينكسر، لا من ألم، بل من عمق الكلمات التي ظلت تبحث عنها طويلاً، وها هو يقولها ببساطة، كمن يتنفسها لا يتعلمها.
سألته بخفوت:
– "وهل نملكه؟ هذا الأمان الذي تتحدث عنه؟"
ابتسم، تلك الابتسامة التي تجعل كل الأشياء المعقدة بسيطة، وقال:
– "حين نُدرك أن ما بيننا أقوى من المسافات، وأعمق من الظروف، وأكبر من الخلافات... نعم، نملكه، ونسكن فيه."
لم تكن قصتهما قصة حب تبدأ بنظرة وتنتهي بوعد، بل كانت تبدأ بانكسار.
هي، "ليلى"، كانت فتاة ناضجة، لا تؤمن بالرومانسية الجاهزة، ولا تنخدع بالكلمات.
وهو، "يوسف"، رجل يحمل على كتفيه تجاربه، وسنوات من الخيبات، لكنه لم يفقد قدرته على الحب.
التقيا في زمن كانت فيه القلوب مرهقة، والوجوه منهكة من التمثيل.
كلاهما لم يبحث عن حب، بل عن صدق.
كان لقاؤهما الأول بسيطًا، في معرض للكتب، حيث تناقشا حول رواية تتحدث عن "العشق الملعون"، وبدأ بينهما حوار طويل، لا عن الحب، بل عن "الخذلان".
لكن كل يوم كان يمر، كان يوسف يشعر أن ليلى تشبه السلام الذي لم يعرفه يومًا، بينما كانت ليلى ترى في يوسف وعدًا لم يُقال، لكنه يُشعرها أنها بخير، حتى دون أن يكتمل.
الحب بين قوتينمرّت شهور، لم يتبادلا كلمة "أحبك"، لكنها كانت تنطق في التفاصيل.
حين كان ينتظرها في البرد دون أن يتذمّر
حين كانت تقرأ له بصوتها كي ينام
حين كان يرسل لها وردة بلا مناسبة
وحين كانت تصمت في وجوده دون خوف
لكنّهما، رغم كل هذا، كانا مختلفين.
هو: سريع الغضب، يثور ويصمت
هي: عنيدة، لا تقبل الاعتذار بسهولة
وكان الخلاف يحدث، والصمت يطول أحيانًا
لكن...
دائمًا، في النهاية، يعودان.
ذات مرة، قال لها:
– "أنا لا أعدك أني لن أغضب، أو أننا لن نختلف،
لكني أعدك أني حين أغضب، سأعود...
لأنك لستِ مجرد امرأة،
أنتِ البيت، وإن تهتُ عنه، أعود لأحتمي به."
قالت له ذات مساء:
– "أحيانًا أخاف، لا من حبنا، بل من الحياة...
أخاف أن تخطفك الظروف، أو أن نتغير..."
فأجابها بصوت خافت:
– "من يحبك بصدق، لا تسرقه الحياة، بل يقاتل لأجلك فيها."
في يومٍ ما، اختلفا بشدّة.
قالت له كلمات جارحة،
فرد عليها بصمتٍ أكثر إيلامًا.
ابتعدا. أيام، ثم أسابيع.
حاول أصدقاؤهم التدخّل،
قال البعض: "انتهت"
لكن قلب كل منهما، كان لا يزال ينادي الآخر، رغم الألم.
وفي مساء رمادي، أرسل لها رسالة قصيرة:
– "هل فقدتِ الأمان؟"
لم ترد.
بعد ساعة، وجدته أمام باب بيتها.
قالت له:
– "ظننتك لن تعود."
قال:
– "ظننتك لن تسامحي."
قالت:
– "نسيت لحظة قلت لي فيها إنك سترحل إذا انتهى الحب..."
أجابها:
– "لكني لم أقل يومًا إنني سأرحل إذا غضبنا."
ثم اقترب منها، أمسك بيديها، ونظر في عينيها، وقال:
– "الأمان، هو أن نختلف، ولا نخاف الفقد."
– "أن نغيب، ونعرف أننا عائدون."
– "أن نعلم أن ما بيننا ليس هشًا، ولا يتكسر مع أول خلاف."
فبكت.
ليست دموع حزن، بل دموع يقين.
ولأول مرة، شعرت أن الحب ليس وردًا، بل جذور.
وأن الأمان... هو أن تجد قلبًا لا يغادر، حتى حين يغضب.
عاشا بعدها أيامًا بسيطة، لا مثالية،
فيها ضحك، وفيها ضيق،
فيها صباحات فيها قهوة مشتركة،
وليل طويل من الحديث أو حتى الصمت.
لم يعودا يبحثان عن الكمال،
بل عن الوفاء
لم يتهربا من الألم،
بل احتضناه معًا، لأنه جزء من الرحلة.
وفي عيد ميلادها، كتب لها يوسف رسالة:
النهاية"ليلى،
لم أكتب لكِ لأنني شاعر،
بل لأنكِ القصيدة الوحيدة التي شعرت أنها تكتُبني.قالوا لي: العشق؟
فقلت لهم: سؤال ناقص.سألتني: وما أعظم من العشق؟
أقول لكِ اليوم، كما قلت حين التقت عيوننا أول مرة:
أعظم من العشق، أن تكوني لي وطنًا،
أن نغضب، نختلف، نتباعد، لكن نعود...
أن نعلم أن بيننا شيئًا لا ينكسر...إنه أنتِ،
إنه الأمان."
ليلى ويوسف لم يكونا استثناءً،
كانا فقط صادقين بما يكفي ليفهموا أن الحب ليس حالة مؤقتة،
ولا موجة مشاعر،
بل قرار، واحتواء،
وصبر.
قالت له ذات صباح:
– "هل تخاف أن ينتهي الحب؟"
فقال:
– "أخاف أن ينتهي الصدق... أما الحب، فهو يتنفس بالصدق فقط."
ثم سألته ذات مساء:
– "قل لي مرة أخرى... ما أعظم من العشق؟"
فأمسك بيديها، ونظر في عينيها، وقال:
– "الأمان... فيكي."
تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.