لم يكن الليل كما كان من قبل، ولا الأيام تحمل نفس الملامح. مرّت الشهور على آدم وكأنها تتآمر عليه ببطء، كل صباح يشبه الآخر، وكل مساء يُعيد له نفس الذكرى. كان يحاول أن يهرب من ظل نورا، من ملامحها التي اختبأت في ذاكرته، من صوتها الذي ما زال يتردد في أعماقه، لكن كيف يهرب من شيء يعيش داخله؟
حاول في البداية أن ينسى، أن يمحو أثرها من حياته، فحذف صورها ورسائلها، ومسح كل ما يربطه بها من ملفات ومحادثات. لكنه اكتشف أن حذف الملفات أسهل من حذف المشاعر. فكلما أغلق صفحة، وجد قلبه يفتحها من جديد. لم يكن يحبها فقط، كان يعيش بها، كأنها أصبحت اللغة التي يفهم بها الحياة.
في أحد الأيام، وبينما كان يعمل على مشروع جديد في مكتب صغير استأجره مؤخرًا، توقف فجأة أمام سطر من الكود لم يستطع إكماله. لم يكن الخطأ تقنيًا، بل كان داخله. جلس متجمدًا أمام الشاشة، يحدّق في الضوء الأبيض الذي انعكس على وجهه، شعر أن عقله مشوّش، أن أفكاره كلها مربوطة بذكرى لم تندمل بعد.
ووسط هذا الصمت، كتب جملة صغيرة في نافذة الملاحظات بدلًا من الكود:
“الألم أيضًا يبرمجنا على البقاء.”
توقف عندها طويلاً. كانت الجملة صادقة أكثر مما توقع.
في تلك اللحظة، شعر أن الوجع الذي حمله كل تلك المدة يمكن أن يتحول إلى شيء آخر، شيء لا يدمّره، بل يصنع منه إنسانًا جديدًا. فبدلًا من أن يهرب من حزنه، قرر أن يواجهه، أن يكتبه، أن يترجمه إلى كلمات.
في تلك الليلة، فتح دفترًا قديمًا كان يستخدمه لتدوين أفكار مشاريعه، وبدأ يكتب عن نورا. لم يكتبها كقصة حب انتهت، بل كتبها كرحلة داخلية، كدرس في الإيمان والخذلان، في الثقة والضعف.
كتب عن لقائهما الأول، عن تلك الرسائل الطويلة التي كانت تسهر معه حتى الفجر، عن أول اعتراف بالحب، عن الصمت الذي سبق الرحيل. كتب كل التفاصيل التي لم يجرؤ على قولها من قبل، وكأنه يعيد صياغة قلبه بالكلمات.
مرت الأيام، وتحول دفتره الصغير إلى رواية. لم يكن ينوي نشرها، لكنه كان يجد راحته فيها.
كانت الكتابة بالنسبة له مثل تضميد جرح لا يلتئم، كل كلمة كانت قطرة دواء على ندبة لا تزول.
ومع كل فصل يكتبه، كان يشعر أنه يستعيد جزءًا من نفسه.
أطلق على الرواية اسم “نورا الرقمية”. لم يكن الاسم صدفة، كان اعترافًا خفيًا أن الحب الذي عاشه لم يكن مزيفًا بالكامل، بل كان حقيقيًا في لحظته، مهما كانت النهايات قاسية.
بعد أشهر من العمل، قرر أن ينشر الرواية على أحد المواقع الأدبية المتخصصة. لم يكن ينتظر شهرة أو مالًا، فقط أراد أن يقول للعالم: “هذا أنا بعد العاصفة.”
ولم يتوقع ما حدث بعد ذلك.
في أقل من أسبوع، انتشرت الرواية بين القرّاء كالنار في الهشيم. آلاف التعليقات كانت تنهال عليه من أشخاص وجدوا أنفسهم في كلماته. البعض كتب له: “كأنك تكتب قصتي.” والآخر قال: “وجعك جعلنا نبكي، لكنه جعلنا نؤمن من جديد.”
بدأ يتلقى عروضًا من دور نشر لتبني العمل، ووجد نفسه يتحدث في لقاءات أدبية عبر الإنترنت عن تجربته، عن كيف يمكن للحزن أن يتحول إلى إبداع، وعن أن أكثر النصوص صدقًا هي التي تُكتب بالدمع لا بالحبر.
في إحدى الأمسيات، كان يتفقد بريده الإلكتروني، فوجد رسالة غريبة بعنوان: “كنت هناك حين كتبت النهاية.”
فتحها بفضول، وكانت من عنوان لا يعرفه. الرسالة قصيرة جدًا:
“قرأت روايتك كاملة، ولم أستطع التوقف عن البكاء. لم أكن أتخيل أنني كنت مصدر كل هذا الألم، لكن صدقني يا آدم، أنا أيضًا كنت موجوعة.”
تجمدت أنامله. قرأ السطر أكثر من مرة. كانت الرسالة من نورا.
عرفها من طريقة كتابتها، من أسلوبها، من كلماتها التي تشبه نبضه.
أمسك رأسه بين يديه، لا يعرف إن كان يجب أن يفرح لأنها ما زالت على قيد الحياة، أم يغضب لأنها عادت فقط لتفتح الجرح من جديد.
جلس طويلًا، لا يكتب، لا يتحرك، فقط يحدّق في الشاشة. ثم كتب ردًا بعد صمت طويل:
“لم أكتب الرواية لأنتقم، بل لأتسامح. لا ألومك على الرحيل، فقد كنتِ الدرس الذي علّمني كيف أحب نفسي بعدك. أتمنى أن تكوني بخير، حيثما كنتِ.”
أرسل الرسالة، وأغلق بريده، ثم تنفّس بعمق كمن يضع نقطة النهاية لحكاية طويلة.
وللمرة الأولى منذ رحيلها، لم يشعر بالألم، بل بشيء يشبه السلام.
في الأيام التالية، بدأ يلاحظ أن كتاباته تغيّرت. صار يكتب بثقة أكبر، بروح أكثر نضجًا. لم يعد يبحث عن الحب كما كان، بل عن المعنى. كان يقول لنفسه دائمًا:
“ربما كان وجعي طريقًا إلى حريتي.”
تحولت روايته إلى ظاهرة أدبية، تُرجم بعضها إلى لغات أخرى. صار الناس يقتبسون من كلماته على مواقع التواصل، ويكتبون تحتها: “حين يتحول الوجع إلى إلهام.”
لكن رغم كل النجاح، كان هناك شيء ناقص.
في داخله ظلّ سؤال صغير لا يغيب:
هل كانت نورا نادمة حقًا؟ هل أحبت بصدق ثم خافت؟ أم كانت تلعب منذ البداية؟
لم يجد الجواب، ولم يعد يبحث عنه.
صار يدرك أن بعض الأسئلة لا تحتاج إلى إجابة، لأن الإجابة قد تُفسد الهدوء الذي وجد بعد كل هذا العذاب.
وفي إحدى الأمسيات الهادئة، جلس أمام نافذة مكتبه، ينظر إلى المدينة الغارقة في الضوء والضجيج.
فتح دفتره من جديد وكتب:
“ربما كانت نورا ظلاً، لكنها جعلتني أرى الضوء.”
توقف لحظة، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة تشبه الرضا.
لقد أدرك الآن أن الإنسان لا يُشفى من الحب، بل يتعلم كيف يعيش به دون أن ينكسر.
وأن الخذلان ليس النهاية، بل بداية جديدة تُجبرك على رؤية نفسك كما لم ترها من قبل.
في تلك الليلة، قبل أن ينام، دخل إلى موقعه الشخصي، ونشر مقطعًا قصيرًا كتب فيه:
“كنت أظن أن الكتابة هروب من الألم، لكني اكتشفت أنها الطريق إليه. كل حرف كتبتُه كان وجعًا يزول قليلاً، وكل دمعة سقطت على الورق كانت تمنحني حياة جديدة. ربما لم أعد كما كنت، لكني الآن أكثر صدقًا مع نفسي.”
وتفاعل القراء معه بجنون. صار اسمه رمزًا للكتابة الصادقة. الصحف كتبت عنه، والقنوات تحدثت عن روايته، لكنه ظلّ بسيطًا، متواضعًا، يرد على كل رسالة بنفس الدفء. كان يقول:
“ما كتبته لم يكن فنًا، كان نداءً من قلب مكسور.”
وذات مساء، تلقى دعوة من معرض الكتاب في مدينته لتوقيع روايته الجديدة. حضر مئات القرّاء، وكان الجو مفعمًا بالمشاعر. وبين الجموع، لمح وجهًا مألوفًا يقف بعيدًا. كانت ترتدي معطفًا رماديًا قديمًا، وتشبه نورا كثيرًا.
توقف الزمن للحظة. لم يصدق عينيه، لكنها اختفت وسط الحشد قبل أن يقترب.
لم يركض خلفها. فقط ابتسم وقال في نفسه:
“ربما جاءت لتتأكد أني بخير. وأنا بخير فعلًا.”
عاد إلى الطاولة، وقّع النسخ، والتقط الصور مع المعجبين، لكنه في أعماقه كان يشعر أن الدائرة اكتملت.
أن الحب الذي كسره، هو نفسه الذي صنع منه كاتبًا يعرف كيف يلمس القلوب.
وفي طريق عودته إلى البيت، كان المطر يتساقط بخفة، ورائحة الأرض تعبق في الجو. سار ببطء، ورفع وجهه نحو السماء. شعر بالبرد يلامس جلده، لكنه لم يكن يؤلمه.
كان المطر بالنسبة له يشبه الكتابة، كلاهما يطهّر الألم.
حين وصل إلى غرفته، جلس أمام حاسوبه، وكتب آخر سطر في مذكراته:
“الوجع حين يصبح إلهامًا لا يعود وجعًا، بل يصبح حياة جديدة نولد منها من جديد.”
ثم أطفأ الضوء، وترك النافذة مفتوحة.
كانت رياح الليل تمرّ على أوراقه كما لو أنها تقرأ معه الحكاية، تهمس في أذنه بصوت نورا القديم:
“ما بيننا لم يكن كاملاً، لكنه كان حقيقيًا.”
ابتسم وهو يغمض عينيه، كأنه يسمعها للمرة الأخيرة، ثم همس لنفسه:
“نعم… وكان كافيًا ليصبح بداية كل شيء.”.....
ظلال من أرض المواقع - الجزء الاول
تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.