حين همس الحب باسمك - رواية حب رومانسية

Admin
0

الفصل الأول من الروايا

كانت القاهرة في ذلك الصباح هادئة على غير عادتها، والشمس تتسلل بخجل بين المباني القديمة، تلامس وجوه الناس بعطفٍ نادر.
جلست شعاع في مقهى صغير يطل على النيل، ترتشف قهوتها ببطء وتراقب المراكب التي تمضي كأنها أحلام بعيدة. كانت قد أنهت يوم عمل طويل في دار نشر صغيرة بوسط البلد، وتحب أن تهرب إلى هذا المكان كلما ضاقت بها الفوضى.

حين همس الحب باسمك - رواية حب رومانسية

لم تكن تعرف أن هذا اليوم بالذات سيغيّر شيئًا عميقًا في حياتها، شيئًا يشبه ضوءًا صغيرًا يتسلل إلى روحٍ أرهقها الهدوء الطويل.

كان جميل يجلس على الطاولة المقابلة، يحمل دفترًا أسود يكتب فيه بشغفٍ غريب.
ملامحه هادئة، ونظرته تحمل شيئًا من البوح المكبوت. حين رفعت شعاع نظرها، التقت عيناها بعينيه للحظةٍ خاطفة. لحظة لم تستمر أكثر من ثانية، لكنها كانت كافية لتوقظ في داخلها شيئًا كان نائمًا منذ زمن.

ابتسم هو بخجلٍ بسيط، ثم أعاد نظره إلى دفاتره. أما هي فحاولت أن تبدو مشغولة، لكنها شعرت أن قلبها بدأ يكتب على طريقته:

“يا من تسكن العيون ولا تدري،
أهذا صباح أم بداية عمرٍ آخر؟
كل شيءٍ فيك يقول إنني...
أخيرًا وجدت ما كنت أبحث عنه دون أن أعرفه.”

مرّت الدقائق، وغادر المقهى تاركًا خلفه رائحةً خفيفة من عطره، وكأنها وعدٌ غامض.
في المساء، وبينما كانت شعاع ترتب أوراق العمل في مكتبها، دخل شاب يحمل بيده ملفًا تعريفيًا.
“السلام عليكم... جئتُ لأقدّم سيرتي لفرصة العمل في قسم التصميم.”
رفعت رأسها... وتجمّدت للحظة. كان هو، نفس الابتسامة، نفس الدفتر الأسود في يده.

قالت وهي تحاول أن تبدو طبيعية:
“أهلًا... تفضل بالجلوس.”
ابتسم: “لم أتوقع أن أراكِ مجددًا بعد ذلك الصباح.”
ضحكت بخفة: “ولا أنا... يبدو أن القاهرة صغيرة جدًا حين يريد القدر شيئًا.”

ومنذ ذلك اليوم، صار وجوده في المكتب كأنه موسيقى خفية لا تنتهي.
لم يكن بينهما كلام كثير، لكن الصمت كان يقول ما لا يقال.
كانت تراقبه حين يعمل، فيبتسم دون أن يشعر، وكأن تفاصيله الصغيرة أصبحت القصيدة التي تكتبها دون ورق.

في يومٍ هادئ، حين تأخر الموظفون وغابت ضوضاء المدينة، سألها جميل وهو يحدّق في شاشة الحاسوب:
“هل تؤمنين أن الأرواح يمكن أن تتعرّف على بعضها قبل أن تتحدث الكلمات؟”
ترددت ثم قالت:
“ربما... لكن أحيانًا نخاف من تصديق ذلك.”
ابتسم وقال بنغمةٍ تشبه البوح:
“وأنا منذ رأيتك صباح المقهى... شعرت أن قلبي تعرّف عليكِ قبل أن أعرف اسمك.”

سكتت شعاع، وشعرت أن الكلمات خرجت من أعماق لم تصلها منذ زمن.
كتبت في دفترها تلك الليلة:

“يا من جاء اسمه كآيةٍ تُتلى على خجل،
وكأن اللغة خضعت لجمالٍ لا يُقال،
أأنت بشرٌ من طينٍ ووردٍ، أم حلمٌ مرّ في القلب وترك أثره؟”

مرت الأسابيع، وتحوّل الحديث بينهما إلى عادة يومية.
يتقاسمان القهوة كل صباح، وتحدثه عن الكتب والروائح القديمة، ويحدثها عن الموسيقى التي يسمعها حين يشتاق إلى الهدوء.
بدأت تشعر أنه لا يقترب منها بكلامٍ مباشر، بل بنظراتٍ تشبه الشعر.

وذات مساء، بعد انتهاء الدوام، خرجا معًا نحو الكورنيش.
كانت القاهرة في المساء أكثر صدقًا؛ تختبئ فيها الحكايات في ضوء الشارع وضحكات العابرين.
قال جميل وهو ينظر إلى النيل:
“تعرفين يا شعاع، أحيانًا أكتب أغاني لا يسمعها أحد... فقط لأشعر أنني ما زلت على قيد الحلم.”
ابتسمت وقالت: “وهل تكتب الآن أغنية جديدة؟”
أجاب بهدوءٍ وصدق:

“نعم... لكنها ليست أغنية، إنها أنتِ.”

سكتت لبرهة، ثم قالت بخجلٍ عميق:
“لم أعد أسمع الأغاني مؤخرًا، لكنّ حديثك يجعلني أصدق أن الحب نفسه موسيقى.”

ضحك وقال: “وأنا أصدق أن صوتك كافٍ ليجعل العالم يعزف.”

توقفا قليلًا أمام أحد الباعة، اشترى لها وردة صغيرة، وقال:
“لكِ هذه الوردة... لأنّ بعض الأشياء لا تحتاج إلى مبرر.”
نظرت إليه طويلاً وقالت في نفسها:

“يا من علّمتني أن الوردة ليست هدية،
بل وعدٌ صغير بأن شيئًا جميلًا بدأ في القلب.”

ذلك المساء لم يكن عاديًا. كانت القاهرة تغني أغنية قديمة في الخلفية، وكان قلب شعاع يعيد اللحن بطريقته.
حين ودّعها أمام باب بيتها، قالت بخفوتٍ:
“شكرًا على الوردة... وعلى الهدوء.”
ابتسم قائلًا: “وأنا أشكر الصدفة التي جعلتني أراكِ مرتين، لأنها المرة التي بدأتُ أصدق فيها الحكايات.”

دخلت شعاع إلى شقتها الصغيرة وهي تضع الوردة على الطاولة، تشرب من عطرها كلما مرّت بجانبها.
وفي دفترها كتبت من جديد:

“لو كان القلب طريقًا، لكنت أول العابرين.
ولو كان الحنين مدينة، لسكنتَ فيها إلى الأبد.”

لكنها لم تكن تعرف أن الأيام القادمة ستمتحن هذا الهدوء، وستجعلها تكتشف أن الحب لا يُقاس بالكلمات، بل بما يبقى بعد الغياب.

الفصل الثاني - على شاطئ الانتظار

كانت القاهرة قد بدأت تودّع حرّ الصيف حين قرّر "جميل" أن يأخذ إجازة قصيرة إلى الساحل. كان بحاجة إلى هواء جديد يخفف عنه ضجيج الأيام المتكررة. لم يكن يدري أن البحر سيكون هذه المرة بوابة مختلفة، وأن القدر يخبّئ له فصلًا جديدًا من روايته مع "شعاع" — الفتاة التي منذ التقاها، تغيّر شيء في قلبه لم يعرف له اسمًا.

وصل إلى الساحل في مساءٍ من سبتمبر، السماء صافية، والبحر هادئ كقلبٍ يستعد لسماع اعتراف طال انتظاره.
وفي صباح اليوم التالي، كانت شعاع هناك، ترتدي فستانًا أبيضَ بسيطًا، وشعرها منساب على كتفيها كالموج. جاءت مع صديقتها لقضاء عطلة قصيرة أيضًا. لم يكن اللقاء مخططًا، لكنه بدا كما لو أن البحر نفسه رتّب الموعد.

حين التقت عيناهما، توقّف الزمن للحظة.
ابتسمت له بخجلٍ يشبه أول الكلام بين عاشقين، فبادلها ابتسامة مرتعشة تحمل في طيّاتها ما لم يُقل بعد.

جلسا معًا في مقهى مطلٍّ على البحر، كان النسيم يحمل رائحة الملح ورائحة القهوة.
قالت شعاع بصوتٍ خافت:
– لم أظن أنني سأراك هنا.
ابتسم جميل وقال:
– وأنا لم أظن أن البحر سيغدو أجمل إلا حين مررتِ أمامه.

ضحكت بخجل، فابتسم قلبه.
كان يدرك أن ما بينهما ليس صدفة عابرة، فالصُدف لا تكرر نبض القلب مرتين.

في المساء، جلسا قرب الشاطئ، الموج يتهادى أمامهما بهدوءٍ كأنه ينصت.
قالت وهي تنظر إلى الأفق:
– البحر غريب... كل موجة تشبه وعدًا لم يكتمل.
أجابها وهو يرسم بأصابعه على الرمل:
– لكن بعض الوعود تكتمل حين نجد الشخص الذي يستحقها.

سكتت، ومرّت لحظة صمتٍ طويلة بينهما، لم يكن فيها إلا نبضهما وصوت الموج.

ثم همس جميل وكأنه يقرأ من داخله:

من تكونين يا من عطّرتِ الحروف قبل أن تُكتَب؟
يا من جاء اسمك كآيةٍ تُتلى على خجلٍ، وكأن اللغة خضعت لجمالٍ لا يُقال.

رفعت رأسها نحوه، وفي عينيها دهشة من عمق كلماته، فسألته بخجل:
– أهذا شعر؟
ابتسم وقال:
– بل هو اعتراف لم يجد طريقًا آخر ليقال.

أحسّت أن شيئًا ما في قلبها بدأ يذوب.
كانت الكلمات بينهما تشبه شمس الغروب، دافئة بما يكفي لتترك أثرها بعد أن ترحل.

في اليوم التالي، قررا الخروج في جولة قصيرة على الشاطئ مع طلوع الشمس.
كانت الرمال باردة والسماء تلوّنها خطوط وردية.
كانت شعاع تمشي حافية القدمين، تضحك كلما داعب الموج أطراف ثوبها، أما جميل فكان يراقبها بصمتٍ ممتن، وكأنه يرى الحياة تُولد من جديد أمامه.

قالت له وهي تضحك:
– البحر لا يحب أن يُؤخذ على محمل الجد، انظر كيف يسخر من خطواتنا.
أجابها مبتسمًا:
– البحر لا يسخر، هو فقط يغار من جمالك.

توقّفت لحظة، التقت نظراتهما، فتراجع الموج بخفة كأنه انسحب احترامًا لتلك اللحظة.
ثم تمتم هو:

كأنك آخر ما تمنّاه العابرون بعد رحلة التعب،
وآخر ما يُقال قبل الصمت الطويل.

همست له:
– جميل... كلماتك تخيفني.
– ولمَ؟
– لأنها تشبه الحقيقة أكثر مما يجب.

مع حلول المساء، جلسا في شرفة مطعم صغير يطل على البحر.

الشموع تترنّح مع النسيم، والموسيقى هادئة تشبه خفقات القلب.
قالت شعاع:
– لم أكن أؤمن باللقاء الثاني... ظننت أن ما يحدث مرة لا يتكرر.
قال مبتسمًا:
– أحيانًا القدر يعيدنا لنفس المكان كي نُكمل ما لم نجرؤ على قوله في المرة الأولى.

ثم نظر إليها مطولًا وقال:
– أتدرين يا شعاع؟ منذ رأيتك أول مرة في القاهرة، كنتِ تشبهين شيئًا فقدته منذ زمن... شيئًا لم أكن أعلم أنه الحب.
قالت بخجلٍ مرتبك:
– الحب؟
– نعم، الحب الذي لم يعرف طريقه إلى قلبي إلا حين نطقتِ باسمي للمرة الأولى.

سكتت، ثم تمتمت بصوتٍ مرتجف:
– وأنا... كنت أخاف من الاعتراف، لكنك جعلت الصمت نفسه ينطق.
ابتسم وقال:
– إذن فلنترك الخوف للماضي، ولنبدأ الحديث من حيث همس القلب.

ثم أضاف بصوتٍ دافئ:

لو كان لي أن أختار لحظة أعيش فيها للأبد،
لاخترت لحظة نظرتك الأولى، حين اختصر الزمن في عينيك.

في تلك الليلة، جلسا على الشاطئ، والقمر يعكس ضوءه على الماء كطريقٍ من فضة.
كانت شعاع تكتب شيئًا على الرمال بأصابعها، فسألها جميل:
– ماذا تكتبين؟
قالت مبتسمة:
– أكتب أمنية صغيرة... ألا ينتهي هذا المساء.
ضحك وقال:
– لو كان بيدي، لأوقفت الزمن هنا.

ثم اقترب منها وقال بصوتٍ هادئ كالموج حين يهمس للصخر:
– شعاع... أريد أن أقول شيئًا منذ زمن.
– قل.
– أحبك.

رفعت رأسها نحوه، والدهشة تلمع في عينيها، كأنها كانت تنتظر الكلمة لكنها لم تصدق أنها قيلت فعلًا.
قالت:
– أعدها.
– أحبك... أحبك كما لم أعرف الحب من قبل، أحبك كأنك ولدتِ من ملامح حلمي القديم.

صمتت لحظة ثم تمتمت:
– وأنا... أحبك يا جميل.
ثم أضافت بصوتٍ يرتجف بالعاطفة:
– ربما لم أكن أعرف معنى الحب، لكنك علمتني أن الحنين أيضًا نوع من البقاء.

اقترب أكثر، أمسك يدها برفق، وقال بصوتٍ يقطر دفئًا:

لو كان للحب وجه، لكان وجهك،
ولو كان له وطن، لكانت صدرك موطني.

ثم ضحكت بخجل وهمست:
– كفاك شعرًا... ستجعل البحر يغار أكثر.
فأجابها ضاحكًا:
– دعيه يغار، فقد وجد قلبي ميناءه أخيرًا.

في آخر ليلة لهما في الساحل، جلسا أمام البحر، والهواء محمّل برائحة الوداع.

قالت شعاع وهي تحدّق في الأفق:
– غدًا نعود إلى القاهرة... كأن هذه الأيام كانت حلمًا.
قال جميل:
– بعض الأحلام لا تنتهي، فقط تُكمل نفسها في الواقع.
ثم أنشد بصوتٍ خافتٍ حمله النسيم:

يا من في حضورك يهدأ العمر،
وفي غيابك تصير الأيام خالية النبض،
لا تغادري قلبي، فكل الطرق إليك.

وضعت رأسها على كتفه وقالت:
– لم أعد أريد شيئًا من الدنيا بعد الآن... فقط أن يبقى هذا الشعور.
قال وهو ينظر إلى البحر:
– سيبقى يا شعاع، لأن الحب الذي يولد من الصدق لا يموت.

ثم غمر السكون المكان، لا يُسمع سوى هدير الموج ووقع أنفاسهما.
كانت تلك اللحظة بداية جديدة، لا وعد فيها ولا خوف، فقط يقينٌ بأن القلوب التي تلتقي صدفة، لا تفترق أبدًا إلا إذا شاء الله أن يجمعها مجددًا في زمنٍ آخر.

وفي ختام المساء، كتب جميل على الرمل: "الحب لا يُكتب، بل يُعاش."
فابتسمت شعاع وقالت: "وأنا عشتك يا جميل... دون حروف."

وهناك، بين نسيم سبتمبر وموج البحر، همس الحب باسمهما معًا.

الفصل الثالث - حين نطقت القلوب لحناً

عادت القاهرة لتستقبلهم كما لو أنها تعرف سرّهم.
في المساء الأول بعد الرحلة، كانت المدينة تختبئ خلف ضبابٍ خفيف، وأضواء السيارات تمتزج كأنها خفقات قلبٍ متسارعة.
توقف "جميل" أمام بيت شعاع، نظر إليها طويلًا قبل أن يقول بابتسامة دافئة:
– أشعر أننا تركنا شيئًا هناك عند البحر.
قالت وهي تميل رأسها بخجل:
– ربما تركنا الصمت الذي كان يخفي كل شيء.
– أو ربما تركنا الخوف، وعدنا فقط بالحب.

ضحكت بخفةٍ تشبه نغمة موسيقية صغيرة، ثم قالت:
– لا أصدق أن الأيام كانت قصيرة لهذه الدرجة.
– ليست الأيام من كانت قصيرة، بل السعادة من كانت ممتدة.

ثم ساد الصمت، لكنه لم يكن صمتًا بارداً، بل دفئًا هادئًا كأن الهواء نفسه يسمع أنفاسهما.

في تلك الليلة، لم ينم جميل.

جلس أمام نافذته يحدق في أضواء القاهرة، وفي ذهنه صوتها ينساب كأنفاس لحنٍ لم يكتمل بعد.
أمسك قلمه، وبدأ يكتب على ورقةٍ بيضاء:

هي ليست كالباقيات،
هي أنشودةُ المساء حين ينام العالم،
هي وعدُ الغيم بالمطر،
وهي أولُ الغروب حين يعانق الأفقُ البحر.

ثم توقف، فكر قليلاً، وأكمل بصوتٍ خافتٍ كأنه يغني:

من تكونين يا من عطّرتِ الحروف قبل أن تُكتَب؟
يا من جاء اسمك كآيةٍ تُتلى على خجلٍ،
كأن اللغة خضعت لجمالٍ لا يُقال.

رفع رأسه مبتسمًا، وقال لنفسه:
– سأجعلها تسمع هذه الكلمات... بصوتي.

في اليوم التالي، دعاها إلى مقهى صغير وسط الزمالك.

كان المكان يعجّ بالعازفين، والموسيقى تعانق المكان كما لو أن الهواء نفسه يعزف.
دخلت شعاع وهي ترتدي فستانًا سماويًا بسيطًا، وشعرها ينساب بحرية كما كان على شاطئ الساحل.
قالت وهي تجلس:
– لا أراك متعبًا بعد السفر.
– الحب لا يعرف التعب يا شعاع، يعرف فقط الشوق.

ضحكت بخجل، ثم تناول فنجان القهوة، وقال:
– كتبت شيئًا البارحة... أردت أن تسمعيه.
– شعر جديد؟
– بل أغنية... كتبتها لأجلك.

ارتبكت، وضحكت في محاولةٍ لتخفي توترها، وقالت:
– أغنية؟! وهل تغني أنت؟
– لم أفعل من قبل، لكنك جعلتِ صوتي يريد أن يقال.

ثم أشار إلى العازف في الزاوية، فبدأ يعزف بهدوءٍ على الغيتار،
وأخذ جميل نفسًا عميقًا، وأغمض عينيه، ثم بدأ يغني بصوتٍ مبحوحٍ صادقٍ:

🎵 يا من تشبهين الصبحَ إن جاءَ بلا موعد،
يا دفءَ ليلي حين يضيع الدفء من كل أحد،
يا وردةً نبتتْ في قلبي،
فصار القلبُ بستانًا لكِ وحدك.

أحبكِ كأنني أتنفسُ اسمكِ،
وأمشي على حروفكِ كمن يخاف أن يُوقظ حلماً،
أحبكِ لأنكِ كنتِ البداية،
ولأنكِ آخر ما تبقى من المعنى حين ينهار الكلام.
🎵

كانت شعاع تتابع كلماته بصمتٍ مدهوش، وعيناها تبرقان كدمعتين من سعادةٍ لا تُقال.
وعندما انتهى، قالت بصوتٍ خافتٍ مبحوح:
– جميل... هذا أجمل شيء سمعته في حياتي.
ابتسم وقال:
– لأنكِ أنتِ من كتبتِه دون أن تدري.

بعد أن غادرا المقهى، سارا معًا على ضفة النيل، الهواء خفيف، والماء يعكس أضواء المدينة كأنها نجومٌ سقطت عمداً في قلبه.

قالت شعاع:
– أغنيتك تلك... شعرت كأنك تغني لي لا للعالم.
– كنت أغني لكِ فعلاً، وما عدت أرى العالم بعدها.
ضحكت ثم قالت:
– لا تقل هذا، سيغار النيل.
– دعيه يغار، فقد كان شاهدًا على كل ما لم يُقل بيننا.

ثم توقف فجأة، نظر إليها مطولًا، وقال بصوتٍ منخفضٍ يشبه الرجفة:

في حضوركِ، تنحني اللغة،
ويصير الكلام ظلًّا لحروف اسمك،
كأن كل الأغاني كُتبت لكِ،
وكأنكِ اللحن الذي خُلقتْ له القلوب.

مدّت يدها لتلمس وجنتيه وقالت بخجل:
– جميل... الحب في عينيك يعلو على كل شيء.
– لا، في عينيكِ هو يولد كل يوم من جديد.

في الأيام التالية، صار كل لقاء بينهما يشبه أغنية جديدة.

يمشيان بين ضوضاء المدينة وكأنهما في عالمٍ من السكون.
كان يرسل لها في الصباح رسائل قصيرة تحمل أبياتًا كتبها فجراً،
فتقرأها وتبتسم قبل أن تكتب له ردّها.

في إحدى رسائله كتب:

أشتاقكِ كما يشتاق الغيم لظلّه،
كما يشتاق الليلُ لصوتِ مَن يقول له "لا تخف".
أحبكِ لا لأنكِ الأجمل،
بل لأنكِ جعلتِ الجمال شيئًا ممكنًا في هذا العالم الصاخب.

وردّت هي:

وأنا أحبك لأنك تصنع من الحروف وطناً،
ومن الصوتِ أمانًا،
لأنك جعلتَ الحبَّ صادقًا، لا وعدًا في الهوا.

كانا يعيشان في تفاصيل بسيطة، لكنها مملوءة بكل ما هو عميق.
نظرة، ضحكة، يد تُمسك أخرى، أو صمتٌ طويل يملؤه ألف حديثٍ غير منطوق.

وذات مساءٍ خريفي، كانت شعاع تجلس في شرفتهما الصغيرة بعد أن قررا أن يعيشا الحب في صدقٍ لا في انتظار.

السماء كانت تمطر بخفة، والمدينة تهمس تحت المطر كأنها تحتفل بهما.
اقترب جميل منها، وغطّاها بمعطفه، ثم همس في أذنها:

لو أنني ولدتُ ألف مرة،
لاخترتُ كل مرة أن أراكِ صدفة،
وأن أحبك كما الآن،
في ضجيج المدن، وفي صمت القلوب.

ضحكت وقالت:
– ألا تخاف أن يملّ الحب من تكرار كلماتك؟
– الحب لا يملّ يا شعاع، هو يتجدّد كلما قلتُ اسمك.

ثم رفع وجهها برفقٍ بيده، ونظر في عينيها طويلًا، وقال:
– أتدرين؟ كنت أظن أن الشعر مبالغة... لكن منذ عرفتك، كل كلمة كتبتها صارت حياة.
– وأنا كنت أظن أن الحب وهم، لكنه أصبح فيك يقينًا لا يُكذّب.

ثم غنّى بصوتٍ منخفضٍ وهو ينظر في عينيها:

🎵 يا حبيبتي، إن نامت العيون،
فقلبي لا ينام،
يحرسكِ من البُعد،
ويُخبئ اسمكِ بين نبضٍ ونبض.

يا امرأةً من ضوءٍ وندى،
يا أغنيةً لا تنتهي،
أحبكِ حتى آخر القصيدة،
وحتى آخر العمر إن كان لي معك عمر.
🎵

كان الليل قد أرخى ستائره، والمطر ما زال يهمس على الزجاج كأن السماء تصفق لهما.

جلست شعاع قريبة منه وقالت:
– جميل... أحيانًا أخاف أن ينتهي كل هذا الجمال.
– لا ينتهي ما خُلِق بالصدق يا شعاع، كل شيء زائل إلا ما يُكتب في القلب.
– إذًا اكتبني في قلبك.
– بل أنتِ القلب ذاته.

ابتسمت، ثم أراحت رأسها على كتفه،
بينما تابع هو همسه الأخير بصوتٍ خافتٍ امتزج بصوت المطر:

حين همس الحب باسمكِ، تغيّر كل شيء،
صار للحياة معنى، وللسماء لون،
وصار قلبي حين يراكِ، وطنًا لا يُهاجَر منه.

يا شعاع، يا امرأةً جعلتِ العمرَ أغنية،
كلما غنّيتها، ازددتُ عشقًا.

أمسك يدها وقال:
– هذه ليست نهاية الحكاية يا شعاع... هذه بدايتنا الحقيقية.
فابتسمت، وقالت بهدوءٍ يشبه وعدًا أبديًا:
– نعم، لأن الحب حين يُقال بصدق، يبدأ لا ينتهي.

وخارج النافذة، كانت القاهرة تنام على صوتهما،
تحت المطر الذي صار يشبه تصفيق السماء لعاشقين اختارا أن يعيشا اللحن حتى آخر نبضة.

قسم

إرسال تعليق

0 تعليقات

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.

إرسال تعليق (0)
3/related/default