في قرية صغيرة محاطة بالتلال الخضراء والأنهار المتعرجة، عاش فلاح بسيط يُدعى حسن، رجل أحب الأرض منذ نعومة أظافره. كانت يداه الخشنتان تحملان حكايات المواسم الطويلة، ووجهه الأسمر يشهد على شمسٍ لم تغب عنه يومًا. كان يعيش في كوخ صغير عند أطراف القرية، لا يملك من الدنيا سوى قطعة أرضٍ خصبة، وعدة ماشية، وقلبٍ مطمئن ينبض بحب الطبيعة.
كان حسن ينهض كل صباح قبل أن تشرق الشمس، فيحمل فأسه ويمضي إلى الحقول بخطواتٍ ثابتة. لم تكن الزراعة بالنسبة له مجرد مهنة، بل كانت حياةً كاملة يعيشها بكل تفاصيلها. كان يراقب نمو الزرع كما يراقب الأب نمو طفله، ويبتسم حين يرى السنابل تميل مع الريح كأنها تحييه.
لكن ذات صباحٍ من أيام الربيع، لاحظ شيئًا غريبًا في حقوله. كانت البذور التي زرعها منذ أيام تختفي، والسنابل الصغيرة تتكسر. جلس متأملًا تحت ظل شجرةٍ قريبة، ليكتشف أن أسرابًا من الطيور كانت تنقض على الحقول كالسيل، تلتهم كل ما تقع عليه أعينها. حاول في البداية أن يلوّح بعصاه أو يصرخ ليُبعدها، لكنها كانت تعود كل مرة بأعدادٍ أكبر وكأنها تسخر من جهده.
في تلك الليالي، كان حسن يجلس أمام مدفأته الصغيرة يفكر في حلٍّ لا يُؤذي تلك المخلوقات الجميلة. لم يرد أن يقتل أو يُؤذي أي طائر، فهو يرى فيها جمال الطبيعة وسحرها، لكنه أيضًا لا يستطيع أن يشاهد تعب عامٍ كامل يضيع أمام عينيه. وبعد تفكيرٍ طويل، خطرت بباله فكرة بسيطة لكنها ذكية:
أن يبني أشباكًا واقية تحيط بالحقول، تمنع الطيور من الوصول إلى المحاصيل دون أن تُلحق بها أي ضرر.
استعان ببعض رجال القرية، وعملوا معًا أيامًا طويلة حتى أتموا بناء الأشباك. كانت تغطي الحقول كأنها غيمة من الأمان. وبالفعل، بدأت المحاصيل تنمو في أمانٍ لم يعرفه من قبل، وتراجعت الطيور المزعجة شيئًا فشيئًا. شعر حسن براحةٍ كبيرة، لكن الحياة كانت تخبئ له مفاجأة أغرب من كل ما تخيله.
ففي أحد الصباحات الهادئة، رأى طائرًا لم يره من قبل. كان ذا ريشٍ براق يلمع تحت أشعة الشمس كقطرات الندى، يتحرك بخفةٍ ومرح، يقفز بين النباتات كأنه يرقص على نغمةٍ خفية لا يسمعها سواه. أثار الطائر فضول حسن، فجلس يراقبه بصمت. كان الطائر لا يهاجم شيئًا، بل بدا وكأنه يحرس المكان. وكلما اقتربت طيورٌ أخرى من الحقول، كان يُصدر صوتًا حادًا يخيفها فتطير مبتعدة.
في البداية ظن حسن أن ما يحدث مجرد صدفة، لكنه مع مرور الأيام لاحظ أن الطائر يأتي كل صباح في الموعد نفسه، ويظل في الحقول حتى الغروب، وكأنه قد اتخذ من أرضه موطنًا له. قرر حسن أن يُقدّم له بعض الحبوب كطعام، فاقترب الطائر بحذرٍ في البداية، ثم بدأ يألفه شيئًا فشيئًا، حتى صار يقف على كتفه أحيانًا.
سمّاه حسن "الوفي"، فقد شعر أنه ليس مجرد طائرٍ عادي، بل صديقٌ مخلص جاءه من رحمة السماء. ومع مرور الأيام، لاحظ أهل القرية أن حقول حسن أصبحت الأكثر خصوبةً وإنتاجًا، بينما كانت باقي الحقول تُعاني من غارات الطيور. بدأ الجميع يتحدث عن ذلك الطائر الغريب، وانقسمت الآراء حوله:
فمنهم من قال إنه طائرٌ مبارك أرسله الله مكافأةً لحسن على رحمته بالحيوانات، ومنهم من قال إنه نذير خيرٍ ظهر في أرضٍ طيبة، فيما اعتقد آخرون أنه مجرد مصادفة.
لكن حسن لم يهتم بما يقول الناس، فقد كان يعلم في قرارة نفسه أن علاقته بـ"الوفي" ليست عادية. كان يشعر أن بينهما لغةً صامتة يفهمها كلاهما دون كلمات. كان الطائر يطير حوله كل صباح وكأنه يُخبره بأن يومه سيكون مباركًا، وحين يحلّ المساء، يقف على غصنٍ قريب من الكوخ، كحارسٍ وفيّ يحرس الحقول حتى يغفو حسن.
مرت الشهور، وبدأ موسم الحصاد. كانت محاصيل حسن وفيرة لم يشهد مثلها من قبل. ذهبت القرية كلها لتشاهد هذا المشهد العجيب: سنابل تملأ الأرض، وثمار لامعة كأنها جواهر تتدلى من أغصانها. وقف حسن وسط حقوله، والدموع تملأ عينيه من الفرح، بينما كان "الوفي" يحلق في السماء فوقه، كأنه يحتفل معه بنجاح عامٍ من التعب والإصرار.
غير أن القدر لا يترك السعادة بلا اختبار. ففي يومٍ عاصفٍ من الشتاء، هبت رياحٌ قوية اجتاحت القرية. اقتلعت بعض الأشجار، وانهارت الأسوار، وأتلفت أجزاء من الأشباك التي تحمي الحقول. حاول حسن إصلاح ما تهدّم، لكن العاصفة كانت أقوى منه. وفي خضمّ ذلك الهلع، لم يجد "الوفي" في مكانه المعتاد. بحث عنه طويلاً، نادى بصوته في كل مكان، لكن لا جواب.
مرّت أيامٌ طويلة، والعاصفة هدأت، إلا أن قلب حسن لم يهدأ. كان يخرج كل صباح يبحث عن الطائر في السماء، على الأشجار، بين الأغصان، دون جدوى. حتى بدأ يعتقد أنه فقد صديقه إلى الأبد. ومع ذلك، كان يشعر أن روحه لا تزال تحوم حول المزرعة، تحرسها في صمت.
وبينما كان يُصلح أحد الأسوار ذات صباحٍ بعد العاصفة بأسابيع، سمع صوتًا مألوفًا يأتي من بعيد. رفع رأسه، فإذا بـ"الوفي" يحلّق فوقه، لكنه لم يكن وحده! كان يرافقه سربٌ من الطيور الصغيرة، تشبهه في اللون والحركة. هبط الطائر أمامه وكأنه يبتسم، ثم بدأ يقفز بين السنابل كما كان يفعل قديمًا. فهم حسن على الفور أن "الوفي" قد عاد، بل جاء بأبنائه أو بجماعته ليواصلوا حراسة الحقول.
منذ ذلك اليوم تغيّرت المزرعة إلى الأبد. لم تعد الطيور الضارة تقترب، وصار المكان ملاذًا آمناً لكل ما هو جميل من مخلوقات الله. أما حسن، فقد صار رمزًا في القرية للفلاح الذي عاش بسلامٍ مع الطبيعة، لا ضدها. كانت قصته تُروى للأطفال كل مساء، عن الرجل الذي أحب الأرض والطير، فبادلته الطبيعة حبًا بحب.
وفي أحد الأيام، وبينما كان حسن يجلس تحت شجرته المفضلة، نظر إلى الأفق البعيد وهمس بصوتٍ خافت:
"لقد علمتني يا وفيّ أن الرحمة أقوى من القوة، وأن الطبيعة تُجازي من يحسن إليها."
ومع مرور السنين، لم يعد أحد يعرف مصير حسن، لكن الحقول بقيت خضراء، والطائر ونسله ظلوا يحلقون فوقها كأنهم أرواحٌ حارسة تحفظ قصة الفلاح الطيب الذي عاش في سلامٍ مع كل ما حوله.
وهكذا، تحولت حكاية الفلاح والطائر الغريب إلى أسطورةٍ ريفيةٍ تتناقلها الأجيال، عن قوة الخير والرحمة، وعن كيف يمكن لنيةٍ صافية أن تغيّر موازين الطبيعة دون أن تُخِلّ بتوازنها. كانت القصة تُذكّر الجميع بأن الأرض لا تُثمر إلا لمن يعاملها بحب، وأن حتى الطيور تفهم لغة القلب إذا كان صادقًا.


تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.