في أحد شوارع قرية صغيرة من قرى سوهاج، كان الصباح يبدأ دائمًا بنفس الهدوء المألوف، رائحة الخبز الطازج تتسلل من بيوت الطين، وأصوات الديكة تختلط بأحاديث الجيران المارة في الأزقة الضيقة. بين هذه التفاصيل البسيطة كانت حكاية حبٍ تولد بهدوء، بعيدًا عن أعين الناس، بين شاب اسمه إبراهيم وفتاة تُدعى ماريان.
إبراهيم كان نجارًا ماهرًا، يعمل في ورشة صغيرة قرب السوق، عرفه أهل القرية بابتسامته الهادئة وصوته المنخفض، وبسعيه الدؤوب إلى لقمة عيشٍ شريفة. أما ماريان، فكانت ابنة عائلة طيبة تسكن في شارع موازٍ للشارع الذي يمر منه إبراهيم يوميًا. لم يكن بينهما لقاءات كثيرة في البداية، لكن النظرات كانت كافية لتزرع في القلبين بذرة حبٍّ خجولة، سرعان ما نمت بين تفاصيل الأيام.
في البداية، كان كل شيء بسيطًا. حين يمر إبراهيم في طريقه إلى الورشة، كانت ماريان تودّعه من خلف الشباك بابتسامة صافية، وفي المساء تقف أمام باب بيتها تنتظر عودته. لم يتحدثا في العلن، لكن العيون كانت تنطق بما لا يقال. ومع مرور الأيام، أصبح بينهما حديثٌ يومي عبر الهاتف، حديث لا يخلو من ضحك وعتاب واهتمام صغير يجعل الحياة أخف وطأة.
كان إبراهيم يجد في صوت ماريان راحته، وكانت هي ترى فيه الأمان الذي حلمت به. ثلاث سنوات مرّت كأنها لحظة قصيرة من الفرح، تقاسما فيها تفاصيل الحياة كلها: مرض والدته، نجاح أخيها في الثانوية، تعب العمل، وحتى أبسط اللحظات ككوب شاي في آخر الليل. كل شيء كان يُحكى، كأنهما صديقان قبل أن يكونا عاشقين.
لكن كما يقول الناس في القرى: “القلوب لا تُخفى على العيون”. بدأت الهمسات تنتشر بين الجيران، وبعضهم راح يراقب ماريان بنظرات تحمل فضولًا قاسيًا. لم يكن الأمر خافيًا طويلًا حتى وصل إلى مسامع أهل إبراهيم.
في البداية، لم يصدقوا. ثم حين تأكدوا، تحولت دهشتهم إلى غضب، وغضبهم إلى حربٍ خفية ضد فتاة لم تقترف سوى الحب.
أمه كانت أول من رفضت الأمر بشدة، قالت له ذات ليلة بحدةٍ ممزوجة بالدموع:
“إنت مش عارف الناس بتقول إيه؟ دي البنت دي هتجيبلك الكلام! احنا عيلة، واسمنا مش لعبة في ألسنة الناس.”
حاول إبراهيم أن يشرح، أن يدافع، لكن كل كلمة منه كانت تُقابل بجدار من الخوف والعادات. لم يكن الرفض فقط لأن ماريان من بيتٍ أقل مكانة، بل لأن القرية لا ترحم امرأة يتحدثون عن حبها علنًا.
بدأت الحكاية تأخذ منحى مؤلمًا. أهل إبراهيم، الذين لم يعرفوا ماريان يومًا، صاروا يطلقون الكلام في كل مكان. لم يكتفوا بالاعتراض داخل البيت، بل حاولوا تشويه صورتها بين الناس. قالوا إنها تتصل به ليلًا بلا حياء، وإنها تتصنع البراءة لتخطف قلبه، وإنه لو تزوجها سيجلب العار. كلماتٌ كالسكاكين كانت تُغرس في كرامتها كل يوم، لكنها ظلت صامتة.
كانت ماريان تعرف أن إبراهيم لا يعلم شيئًا عن هذه الأحاديث، فكانت تُخفي الأمر عنه خوفًا من أن يغضب أو يتصرف بتهور. لكن كل ليلة كانت تبكي بصمت، تحاول أن تقنع نفسها أن الحب سينتصر، وأن الأيام كفيلة بإسكات كل الألسنة.
مرت الشهور، لكن الكلام لم يتوقف. ذات ليلة، بعد أن أنهكها الصبر، قررت أن تخبر إبراهيم بكل شيء. كانت المكالمة طويلة، مليئة بالتردد والخوف، بدأت بصوتٍ مرتجف:
“إبراهيم… أنا مش قادرة أتحمل الكلام اللي بيتقال عني، الناس بتقول حاجات بتوجع، وأهلك بيزودوا عليهم.”
ساد الصمت في الجهة الأخرى من الهاتف، ثم جاء صوته متوترًا:
“أهلي؟ بتقولي إنهم بيكلموا عنك؟ مستحيل، يمكن الناس بس بتبالغ.”
لكنها أكملت بعزمٍ باكٍ:
“أنا سمعت بأذني يا إبراهيم، سمعت أمك بتحكي عني قدام الجيران، وسمعت أخوك بيضحك لما واحدة قالت إني بجري وراك. أنا كنت بسكت علشانك، بس الكلام زاد، وأنا خلاص مش قادرة.”
تبدل صوته، لم يعد هادئًا كما عهدته، صار خليطًا من الغضب والخذلان. حاول أن يهدئها، لكنه كان يغلي من الداخل. بين حبه لها وبين دماء أهله كانت معركة لا يعرف كيف يحسمها.
في الأيام التالية، ساءت الأمور أكثر. إبراهيم بدأ يواجه أسرته بكلمات حادة، صار صوته يرتفع في البيت لأول مرة، ووجهه يفقد ملامحه المألوفة. لكن ما لم يفهمه هو أن كل كلمة دفاع كانت تزيد النار اشتعالًا.
أهله لم يعودوا يرونه كما كان، صاروا يقولون إن الفتاة سحرته، وإنها تُفسده عن طريق الهاتف. كان يحاول أن يقنعهم بأنها فتاة طيبة، لكن كلمة دافع عنه كانت تزيد الامور سوء، وجد هو نفسه وحيدًا في وجه الجميع.
أما ماريان، فكانت تنزف بصمت. كل يومٍ كان وجهها يفقد شيئًا من نوره، وكل مكالمة كانت تنتهي بدمعةٍ مكتومة. كانت تخشى أن يكون حبهما ينهار، لكنها لم تملك سوى الانتظار.
وذات يوم، تغيّر كل شيء. إبراهيم لم يتصل. لا صباح الخير، ولا مساء النور، ولا نظرة من بعيد في الشارع الذي شهد حبهما.
في البداية ظنت أنه مشغول، ثم حاولت الاتصال مرارًا دون جدوى. مرت أيام، ثم أسابيع، حتى فهمت الحقيقة:
لقد انتصر كلام الناس.
إبراهيم لم يكن شجاعًا كفاية ليتحدى الجميع، ولا قاسيًا كفاية لينسى. ظل عالقًا بين القلب والعائلة، فاختار الصمت.
وفي صمته مات كل شيء.
مرت الأسابيع ثقيلة كالحجر. ماريان لم تعد تخرج من بيتها كما كانت، لم تعد تبتسم للجيران أو ترد على التحية. كانت والدتها تنظر إليها بحزنٍ صامت، تعرف أن ابنتها خذلتها الحياة، لكنها لا تملك سوى الدعاء.
أما إبراهيم، فقد تغيّر تمامًا. أصبح صامتًا لا يضحك كما كان، لا يجلس مع أصدقائه في الورشة، ولا يشاركهم النكات. صار وجهه متجهّمًا، وصوته خافتًا.
كلما حاول أحدهم الحديث عن الزواج أو المستقبل، كان يرد بإيماءةٍ باهتة ثم يغيّر الموضوع.
لم يكن أحد يعرف ما الذي يدور بداخله، لكنه في أعماقه كان يرى ماريان كل ليلة، في صمت الشوارع التي جمعتهما، في الشباك الذي كانت تودعه منه، في رائحة الخشب التي تشبه يدها الدافئة حين كانت تواسيه.
القرية لم تنسَ قصتهما، لكنها انتقلت إلى حكايات أخرى. الناس في القرى لا يملّون من الحديث، كل يوم هناك قصة جديدة تشغلهم. أما قصتهما، فصارت ذكرى تُروى أحيانًا على سبيل العظة، وأحيانًا للسخرية.
وذات مساء، بعد عامٍ كامل من الفراق، كان إبراهيم عائدًا من الورشة بخطواتٍ ثقيلة. مرّ من نفس الشارع القديم، نفس البيت الذي كانت تطل منه ماريان. لم يقصد النظر، لكنه وجد نفسه يرفع عينيه بلا وعي، فرأى الشباك مفتوحًا على نصفه.
لم يرَ وجهها، لكن النسمة العابرة حملت شيئًا من رائحتها القديمة، فشعر أن قلبه يُقبض فجأة.
وقف للحظة طويلة، كأنه ينتظر شيئًا لا يأتي، ثم أكمل طريقه بصمتٍ أعمق من كل ما مضى.
في تلك اللحظة، كانت ماريان تجلس خلف الشباك نفسه، تراه من بعيد وهي تمسك كوب الشاي بين يديها. لم تتحرك، لم تنادِه، فقط تبعته بعينيها حتى اختفى في نهاية الشارع، ثم أغلقت الشباك ببطء.
لم يكن في الأمر وداعٌ، ولا عتاب، فقط استسلام هادئ لقدرٍ لم يعرف الرحمة.
مرت الأيام، كلٌّ منهما يعيش حياته كما لو أن الآخر لم يكن، لكن الحقيقة أن كليهما لم ينسَ شيئًا.
إبراهيم ظل يحمل صورتها في قلبه كجرحٍ لا يلتئم، وماريان ظلت تسمع اسمه في رأسها كلما مرّت في الشارع نفسه.
لم يلتقيا بعدها، لا صدفة ولا قصدًا، كأن الحياة قررت أن تفصلهما دون أن تُنهي الحكاية.
وفي القرية، ما زال بعض كبار السن يذكرون القصة كلما مرّوا من هناك، يقول أحدهم:
“هنا كان في حب جميل… بس اتكسر زي الزجاج، لا بيتصلح ولا بيتنسى.”
وهكذا انتهت الحكاية كما بدأت:
بشارع صغيرٍ في قرية منسية،
وبقلبين ما زالا يعبران الطريق كل يوم،
لكن كلٌّ منهما من جهةٍ مختلفة.
تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.