لم تكن القرية تعرف الصمت كما عرفته تلك الليلة. كانت الحقول تمتد كأجساد نائمة تحت عباءة القمر، والهواء يمر على السنابل فيجعلها تتنفس أنينًا يشبه أنين العجائز عند الحنين. جلست عند طرف الحقل، أتأمل ظلي الممدود فوق الأرض الرطبة، وأقول في نفسي: “كم من مرة مرّ الليل، وترك في صدري شيئًا لم أستطع فهمه… شيء اسمه الخوف.” كنت أخاف من أشياء كثيرة، لا أستطيع تسميتها كلها، لكن أكثرها وضوحًا كان خوفي من الرحيل، من الفقد، من أن يتركني من أحب، كما تركتني الحياة مراتٍ دون وداع.
اسمي “صالح”، ابن هذه الأرض التي تربّت على الماء والعرق. ورثت عن أبي الحقل، وعن أمي الحزن. كنت الفتى الذي يضحك في وجه الناس، لكنه حين يعود إلى بيته، يسمع الريح كأنها توبّخه على ضعفٍ يخفيه. مات أبي وأنا في السابعة عشرة، ومذ ذاك اليوم صرت أعمل في الحقل وحدي. علّمني أبي أن الأرض لا تخون، لكنها لا ترحم أيضًا. قال لي يومًا وهو يحتضر: “من خاف من الأرض جاع، ومن واجهها عاش.” ولم أكن أدرك حينها أن حديثه لم يكن عن الزراعة فقط، بل عن الحياة نفسها.
كانت أمي تقول لي دائمًا وهي تغزل الصوف عند النافذة: “يا صالح، لا تؤجل المواجهة. كل خوف تؤجله يكبر حتى يبتلعك.” كنت أبتسم وأظنها تبالغ، حتى أدركت بعد سنين أن كلامها كان نبوءة. أجلت مواجهة كل شيء: موت أبي، وحدتي، الحب الذي لم أجرؤ على الاعتراف به، والجرح الذي لم أتعلم تضميده.
كنت أحب “عالية”، ابنة الشيخ محمود، منذ كنا أطفالًا. كنا نلعب عند عين الماء، وكانت تضحك بصوتٍ يجعل العصافير تتوقف عن الزقزقة كأنها تصغي إليها. كبرنا، وكبر في قلبي الخوف منها. كنت أريد أن أقول لها يومًا إنني أحبها، لكني كنت أؤجل، أخاف أن تبتسم لي شفقة، أو أن تصمت فيغدو الصمت سيفًا في صدري. وهكذا مرّت السنوات، حتى جاء اليوم الذي خُطبت فيه لغيري. يومها، شعرت أن الحقول كلها تنكمش في صدري، وأن السنابل انحنت لتواسيني. عدت إلى البيت وأنا أجرّ قدميّ كما لو كنت أجرّ عمري خلفي. جلست قرب أمي، فقالت دون أن تنظر إليّ: “ألم أقل لك يا ولدي، من يخاف من المواجهة يخسر الحياة قبل أن يخسر الحب؟”
مرت الأيام ثقيلة، وكنت أعمل في الحقل بصمت، لا أرى إلا التراب والماء والسماء. كانت عالية تمر أحيانًا من بعيد، تحمل طفلها الصغير، وتلقي السلام بخجلٍ يقطّع أوتار القلب. كنت أردّ السلام بصوتٍ لا يكاد يُسمع. وفي كل مرة تمر فيها، كان قلبي يقول لي: “واجه.” لكني كنت أؤجل. وشيئًا فشيئًا، لم يعد هناك ما أؤجله إلا نفسي.
في إحدى الليالي، حين هدأ كل شيء، سمعت صوت الناي من بعيد. كان الحاج منصور يعزف أغنية قديمة على ضفاف النهر. خرجت من البيت كأن شيئًا يناديني. اقتربت منه، فابتسم دون أن يلتفت وقال: “تعال يا صالح، الريح الليلة حزينة، تحتاج من يسمعها.” جلست بقربه، فقال بعد صمت: “أتعرف يا ولدي؟ الريح لا تخاف من شيء، لأنها لا تملك ما تخسره.” ثم أطلق تنهيدة طويلة وتابع: “أما نحن، نخاف لأننا نحب. نخاف أن نفقد من نحب، أو نخسر أنفسنا ونحن نحب. لكن الحياة لا تنتظر من يتردد، إنها تمضي، ونحن نظل على العتبة نرتجف.”
تلك الليلة لم أنم. ظلّ صوت الناي يلاحقني، وكلمات الحاج منصور تتردد في رأسي. شعرت أني إن لم أواجه خوفي، سأموت قبل أن أموت حقًا. لكن كيف أواجهه؟ من أين أبدأ؟ في الصباح، خرجت إلى الحقل أبكر من أي يومٍ مضى. كانت الشمس تتسلّق ببطء، والندى ما زال على أوراق القمح كدموع معلقة. رفعت رأسي إلى السماء وقلت: “يا الله، علّمني كيف أكون شجاعًا.” كانت تلك أول مرة أطلب فيها الشجاعة لا الرزق.
في الظهيرة، بينما كنت أحفر القنوات الصغيرة للماء، سمعت صراخًا من بعيد. كان طفل عالية قد سقط في الساقية، والماء يجرفه بسرعة. ركضت بكل ما أملك، لم أفكر، لم أخف، لم أؤجل. قفزت في الماء دون وعي، أمسكت بالطفل، وانتشلته. كانت عالية تصرخ باسمي، ووجهها مبلل بالدموع. حين خرجت، حملت الطفل إليها، فاحتضنته واحتضنتني معه دون أن تفكر. في تلك اللحظة، شعرت أن شيئًا في داخلي انكسر، وانفتح بابٌ ظل مغلقًا لسنوات. كانت تنظر إليّ بعينين تمتلئان بالعرفان والخوف والحب، وكل ما لم يُقال بيننا يومًا. قالت بصوتٍ مرتجف: “كنتُ أعرف أنك ستأتي.” قلت: “هذه المرة لم أؤجل.” فبكت.
تلك الحادثة غيّرت كل شيء فيّ. صار الناس في القرية ينظرون إليّ بإعجاب، لكن ما لم يعرفوه أن المعركة لم تكن مع الماء، بل مع نفسي. كنت أنا الغريق، ونجوتُ يوم أن أنقذت ذلك الطفل. من يومها بدأت أواجه كل ما أخافه. زرت قبر أبي لأول مرة منذ موته، جلست أمامه وقلت: “غفرت لي يا أبي؟ تأخرت كثيرًا.” شعرت أن الريح مرّت على وجهي كأنها تبتسم. بعدها بأيام، عدت إلى أمي، وقلت لها وأنا أضع رأسي في حجرها: “انتصرت يا أمي.” فأجابتني بحكمة لم أنسها: “يا ولدي، الانتصار الحقيقي أن تبقى قادرًا على المحبة بعد الهزيمة، لا أن تهزم خوفك فحسب.”
كنت أعمل في الحقول وأغني. كان الفلاحون من حولي يندهشون، لأنهم لم يسمعوني أغني من قبل. صرت أردد بصوتٍ عالٍ ما كانت أمي تغنيه وهي تغزل:
“يا نهر لا تخف من جريانك،
فالماء إن توقف مات،
وسرّ الحياة في الحراك،
وفي الشجاعة نجاة.”
كنت أشعر أن الأرض أصبحت صديقتي حقًا، تسمعني وتبادلني الكلام بصمتها. لم تعد الريح تخيفني، ولا الليل يرعبني. حتى الوحدة، صرت أستقبلها كما يُستقبل ضيف قديم يعود معتذرًا. فهمت أن الخوف لا يختبئ في الظلام، بل في صدورنا، وأن مواجهة الذات أصعب من مواجهة أي عدو.
مرت الشهور، وتغيّر كل شيء في القرية. مات الشيخ محمود، والد عالية، وبعد عام مات زوجها بمرضٍ مفاجئ. كانت الأيام قاسية عليها، لكنها ظلت قوية كأشجار الجميز العتيقة. في يومٍ من الأيام، جاءت إلى الحقل، وقفت عند طرفه وقالت لي بصوتٍ مبحوح: “أتعرف يا صالح، ربما تأخرنا كثيرًا، لكن القلوب تعرف طريقها ولو طال السفر.” لم أردّ، لكني شعرت أن الحقول كلّها تنصت. قالت: “أخاف أن أبدأ من جديد.” فابتسمتُ وقلت: “أنا لم أعد أخاف.” كانت تلك الجملة أثقل من قصيدة، أعمق من دعاء. بكت، ثم ضحكت، ثم قالت: “كم أنت متأخر يا صالح.” قلت: “لكنني جئت.”
في تلك الليلة جلست قرب الحقل أغني بصوتٍ منخفض:
“ما أجمل العودة بعد ضياع،
وما أصدق الدمع بعد انكسار،
وما أطيب الحياة حين تكون شجاعًا.”
كانت النجوم تتلألأ، والهواء يحمل رائحة الطين والمطر. شعرت أن كل ما مضى كان طريقًا طويلًا كي أصل إلى هذه اللحظة. لم يكن الانتصار في أن أحصل على عالية، أو أن أنقذ الطفل، أو أن ينتهي خوفي فجأة، بل كان الانتصار في أن أنظر إلى نفسي وأقول: “لقد واجهت.”
مرت الأعوام، وكبر الحقل، وكبرتُ معه. كنت أروي الحكاية لأبنائي وأحفادي حين نجلس ليلًا حول النار، وأقول لهم: “يا أولادي، الخوف مثل الحطب الرطب، إن وضعته في النار لم يشتعل، لكنه يُطفئ لهبك. لا تؤجلوا المواجهة، فالخوف لا يموت بالهروب، بل باللقاء.” ثم أردد ما صار مثلاً عند أهل القرية:
“من خاف الماء غرق في العطش،
ومن واجهه شرب من نبع الحياة.”
صرت أؤمن أن الله لا يختبرنا ليعذبنا، بل ليكشف لنا أنفسنا. ولولا خوفي القديم، لما عرفت طعم الشجاعة. كانت الحياة بسيطة كما الحقل، لكنها تحتاج قلبًا يعرف أن يزرع ولو في العاصفة. كنت أردد دائمًا:
“يا قلب، لا تبتئس من الوجع،
فالألم معلم،
والخوف طريق النور،
ومن واجه ظله،
رأى وجهه الحقيقي.”
وفي آخر أيامي، جلست على مقعدٍ خشبي عند طرف الحقل، الشمس تغيب ببطء، والعصافير تعود لأعشاشها، وأسمع صوت أمي في خيالي تغني:
“لا تؤجل يا بنيّ اللقاء،
فالموت أسرع من الندم،
ومن خاف ظلّ الدرب،
ضاع قبل أن يصل.”
ابتسمتُ، وقلت لنفسي: “أما أنا فقد وصلت.”
كانت عالية تجلس بجانبي، تشدّ على يدي. نظرت إليّ بعينيها اللتين عرفتهما منذ الصغر وقالت: “كنتَ شجاعًا يا صالح.”
فقلت مبتسمًا: “كنتُ خائفًا، ثم صرتُ إنسانًا.”
هكذا انتهت حكاية رجلٍ عاش عمره يخاف، حتى أدرك في النهاية أن الخوف لم يكن في الحياة، بل في قلبه. وعندما انتصر عليه، رأى أن معاناته كلها كانت بسبب تأجيل المواجهة، وأن الشجاعة لا تعني غياب الخوف، بل السير رغم وجوده.
ومنذ ذلك اليوم، صارت القرية تردد مثلًا جديدًا علّمه الناس لأولادهم:
“عند انتصارك على أكبر مخاوفك، ستدرك أن سبب معاناتك هو تأجيل المواجهة.”


تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.