كانت الليالي تمر ببطء، كأن الزمن يسير على أطراف أصابعه. منذ أن نشر آدم روايته الثانية، تغيّرت حياته كثيرًا، لكنه كان يدرك أن الشهرة لم تمحُ الحزن، بل فقط غطّته بطبقة من الضوء. أصبح يُدعى إلى اللقاءات الأدبية، وبدأ الناس يتحدثون عن تجربته بوصفها قصة ملهمة عن "القلب الذي تحوّل إلى قلم". لكنه حين يعود إلى بيته، حين تُطفأ الأضواء ويعمّ الصمت، كان يشعر أنه ما زال يعيش في تلك الغرفة الصغيرة التي بدأت فيها حكايته مع نورا.
لم يعد يكتب عنها، لكنه لم يتوقف عن التفكير بها. كانت تظهر أحيانًا في أحلامه، تجلس أمامه، تبتسم ثم تختفي، تاركة وراءها صدى صوتها القديم الذي يقول له: "ما بيننا لم يكن كاملاً." كان يستيقظ بعدها بقلب مثقل، كأن الذاكرة ترفض أن تتركه بسلام. ومع ذلك، لم يعد يهرب من تلك الذكريات، صار يتعامل معها كجزء منه، كظلّ لا يفارقه لكنه لم يعد يخيفه.
في أحد الأيام، تلقّى رسالة من ناشر كبير في العاصمة يعرض عليه المشاركة في مؤتمر أدبي بعنوان: "من الحزن إلى الإبداع". كانت الدعوة مغرية، ليس لأنها فرصة مهنية، بل لأنها تمس جوهر رحلته كلها. وافق دون تردد، وسافر بعد أيام. كانت الرحلة طويلة، والمدينة التي وصل إليها أكبر من أي مكان عرفه من قبل. ناطحات سحاب تلمع في الليل، ووجوه لا تنظر إلى بعضها، وضجيج لا يتوقف. شعر أنه غريب، لكنه غريب بشجاعة.
في مساء المؤتمر، وقف على المنصة أمام جمهور كبير. ألقى نظرة على الوجوه الجالسة أمامه، ثم بدأ حديثه بصوت هادئ لكنه ثابت:
"حين نفقد من نحب، نظن أن الحياة انتهت. لكن الحقيقة أن الحياة تبدأ من جديد بطريقة لا نفهمها وقتها. الألم ليس عدواً، إنه المعلم الذي لا يرحم، لكنه أصدق من أي حبٍّ خذلنا."
توقّف قليلاً، ثم تابع:
"كتبت لأنني لم أجد طريقة أخرى للبقاء. الكتابة لم تشفِني من الجرح، لكنها جعلتني أرى معناه. أحيانًا، من بين أكثر القصص وجعًا، يولد أجمل ما فينا."
صفّق الحضور بحرارة، لكن أكثر ما لفت انتباهه كان امرأة تجلس في الصف الأخير، ترتدي معطفًا رماديًا وتشده إلى كتفيها كأنها تخفي نفسها عن الضوء. قلبه ارتجف للحظة، وشعر أن الهواء في القاعة اختفى. حاول أن يتجاهلها، أن يقنع نفسه بأنها تشبه نورا فقط، لكن عينيه لم تستطيعا الكذب عليه. كانت هي.
بعد انتهاء المؤتمر، غادر القاعة وسط الزحام. لم يكن يعرف إن كان يريد رؤيتها أم يخاف من ذلك اللقاء. لكنه حين خرج إلى الشارع، وجدها واقفة هناك، تحت المطر الخفيف، كما لو أن الزمن عاد به إلى تلك الأيام البعيدة.
اقتربت بخطوات مترددة، وعيناها تلمعان بخليط من الخجل والدمع.
قالت بصوت مرتجف:
"كنت أعلم أنك ستأتي يومًا إلى هذه المدينة، وكنت أعلم أني سأراك، لكني لم أتخيل كم سيصعب عليّ ذلك."
نظر إليها طويلاً، لم يجب. كانت ملامحها كما يتذكرها، لكنها أكثر نضجًا، وأكثر وجعًا.
قال بهدوء:
"لماذا عدتِ الآن؟"
أجابت وهي تنظر إلى الأرض:
"لأنني لم أعد أحتمل أن أعيش دون أن أطلب منك الغفران."
كانت كلماتها تسقط كالمطر، خفيفة ولكن مؤلمة.
قالت:
"حين عرفتك، كنت في مرحلة سيئة من حياتي. كنت خائفة من كل شيء، من الحب، من الصدق، من نفسي. كنت أظن أن الناس في الإنترنت مجرد عابرين، وأن المشاعر لا يمكن أن تكون حقيقية هنا. لكنك كنت مختلفًا. أحببتك بصدق، وخفت من ذلك الصدق. شعرت أني لا أستحقه، فهربت. ثم حاولت أن أنساك، ولم أستطع. قرأت روايتك، وبكيت كثيرًا. كنت أريد أن أقول لك الحقيقة، لكني خفت أن تكرهني أكثر."
أغمض آدم عينيه للحظة، كأنه يقاتل بين الرغبة في تصديقها والخوف من أن ينكسر مجددًا.
قال بصوت خافت:
"الخذلان لا يُمحى بالاعتذار يا نورا، لكنه يمكن أن يُغفر. وصدقيني، لقد غفرت منذ زمن، ليس لك، بل لنفسي."
رفعت رأسها نحوه بعينين دامعتين، وقالت:
"هل يمكن أن نبدأ من جديد؟"
تردّد قليلًا، ثم قال بابتسامة حزينة:
"لا يمكننا العودة إلى ما كنا عليه، لكن يمكننا أن نكون ما أصبحنا بفضله."
ساد صمت طويل بينهما، لم يكن صمت قطيعة، بل صمتًا ناضجًا، يشبه وداعًا راقيًا لا يحتاج إلى كلمات.
ثم قال لها:
"أتمنى أن تكوني سعيدة، حتى لو لم أكن أنا السبب."
ابتسمت وهي تمسح دموعها وقالت:
"وهذا أكثر ما يجعلني أحبك… رغم كل شيء."
رحلت بعدها ببطء، كأنها تترك خلفها جزءًا منها معه، وجزءًا منه داخلها. لم يركض خلفها، لم يحاول إيقافها. كان يعلم أن هذا اللقاء هو ختام الحكاية، لا فصل جديد منها.
عاد إلى الفندق تلك الليلة، وجلس قرب النافذة، يشاهد المطر ينهمر على الزجاج. فتح دفتره وكتب آخر صفحة في مذكراته:
“أحيانًا تعود الذكريات لا لتعيدنا إلى الماضي، بل لتؤكد أننا تجاوزناه. أحببتها، وخسرتها، وتعلمت منها. الحب لا ينجو دائمًا، لكنه دائمًا يغيّرنا. وأنا تغيّرت.”
في الصباح، غادر المدينة. أثناء الطريق، كانت موسيقى هادئة تنبعث من الإذاعة، تحمل لحنًا يشبه الحنين. نظر من نافذة الحافلة إلى الأفق البعيد، كان الضوء يتسلل بين الغيوم بعد ليلة طويلة من المطر.
ابتسم دون وعي، شعر أن الحياة تمنحه إشارة صغيرة بأن النور لا يأتي إلا بعد العتمة.
مرت السنوات، وذاع صيته ككاتب كبير. صار يكتب عن العلاقات الإنسانية، عن الألم والنضج، عن الأشياء التي لا تُرى. ولم يعد يكتب باسم “آدم المبرمج”، بل باسم “آدم النور”، الاسم الذي اختاره ليذكّر نفسه بأنها كانت البداية.
وفي إحدى مقابلاته التلفزيونية، سألته المذيعة بابتسامة:
“هل ما زلت تؤمن بالحب رغم كل ما كتبته عن الخذلان؟”
ابتسم وقال بهدوء:
“نعم، أؤمن بالحب، لكني لم أعد أبحث عنه. لأن من عرف الوجع، يعرف أن الحب الحقيقي ليس في أن تملك أحدًا، بل أن تفهمه حتى حين يرحل.”
بعد المقابلة، عاد إلى بيته، جلس أمام مكتبه القديم الذي شهد بدايته، وفتح جهازه ليكتب قصة جديدة.
لكن قبل أن يكتب، لمح في صندوق الرسائل رسالة غير مقروءة بعنوان: “أحببت روايتك الأخيرة.”
فتحها، كانت من عنوان غريب. الرسالة قصيرة جدًا:
“أتابعك منذ زمن، لم أكن أعرف أن الألم يمكن أن يكون بهذا الجمال. شكراً لأنك كتبت وجعنا جميعًا.”
ابتسم وهو يقرأها، شعر أن الكون ما زال يرسل له إشاراته الصغيرة.
كتب ردًا بسيطًا:
“الكتابة وجعٌ مشترك، لكننا نكتب لنتقاسم الضوء.”
ثم أغلق الحاسوب، ووقف أمام المرآة للحظة. نظر إلى نفسه، إلى ذلك الشاب الذي بدأ رحلته من شاشة باردة، وها هو اليوم يقف مختلفًا، أقوى، أهدأ، وأقرب إلى ذاته.
قال بصوت خافت:
“الوجع كان معلمي، والحب كان امتحاني، والكتابة كانت خلاصًا.”
اتجه نحو النافذة، فتحها على مصراعيها، ودخل ضوء الصباح إلى الغرفة، صافياً، ناعماً، كأن الحياة تعتذر له بعد طول قسوة.
رفع رأسه نحو السماء وقال بابتسامة خفيفة:
“ربما لم أجد من يستحق البقاء، لكني وجدت نفسي، وهذا يكفيني.”
ثم جلس وبدأ يكتب السطر الأول من رواية جديدة، لم تكن عن نورا هذه المرة، بل عن رجل تعلم أن الحب لا يُفقد حين ينتهي، بل يظل يعيش فينا كضوء صغير لا ينطفئ مهما طال الليل.
وفي نهاية المخطوطة كتب بخط يده:
“إلى كل من أحب بصدق وخُذل، لا تجعلوا الخذلان نهاية الحكاية، بل بدايتها.”
وبينما كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، كان ضوء الشاشة ينعكس على وجهه الهادئ، تمامًا كما كان في البداية، لكن الفرق هذه المرة أنه لم يكن يكتب هربًا من الألم، بل احتفاءً بالحياة التي وُلد منها من جديد.
انتهى النص، وأغلق الجهاز، وخرج إلى الشرفة.
كانت المدينة تغفو ببطء، والنجوم تلمع بسلام.
همس لنفسه آخر جملة في القصة:
“العتمة كانت ضرورية لأرى الضوء.”
ثم ابتسم ابتسامة صغيرة، مطمئنة، كأن قلبه أخيرًا عاد إلى مكانه الصحيح.
وهكذا تنتهي رواية "ظلال من أرض المواقع"
ظلال من أرض المواقع - الجزء الاول
ظلال من أرض المواقع - الجزء الثاني


تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.