لم أكن أظن أن للحياة وجوهًا كثيرة، بعضها يبتسم وبعضها يطعن. كنت دائمًا أؤمن أن الحب إذا وُلد في القلب بصدق، فإنه يبقى، حتى لو انكسر صاحبه ألف مرة. لكنني لم أكن أعلم أن هناك حبًّا يُكتب علينا لنتعلم منه، لا لنعيشه. وياسمين كانت درسي الأول والأخير.
بدأت القصة ببساطة كما تبدأ كل الحكايات الجميلة، بنظرة صدفة. كنت أعمل في إحدى شركات البرمجة في القاهرة، وكنت أتنقل كل يوم بالحافلة نفسها، حتى أصبحت الوجوه مألوفة، والأيام متشابهة. إلى أن ظهرت هي. كانت تجلس قرب النافذة، تضع سماعات صغيرة في أذنيها، وشعرها الأسود ينسدل على كتفيها كليلٍ ناعم. كانت تنظر إلى الشارع بعينين تحملان حزنًا صامتًا، حزنًا يشبهني.
في اليوم الثالث من رؤيتها، جمعت شجاعتي وسألتها عن الوقت. نظرت إليّ، ابتسمت، ثم أجابت بصوت خافت:
– الثانية إلا ربع.
لم تكن الإجابة مهمة، لكن ابتسامتها كانت كفيلة بأن تغيّر إيقاع يومي كله.
بدأنا نتحدث بعد ذلك شيئًا فشيئًا. اكتشفت أنها تعمل في قسم التصميم في شركة قريبة. كانت تحب الفن، وتعشق التفاصيل الصغيرة. كانت تؤمن أن الجمال يكمن في البساطة، وأن الحب الحقيقي لا يحتاج إلى مظاهر كبيرة، بل إلى صدقٍ فقط. وكنت أرى في عينيها ذلك الصدق، الصدق الذي كنت أفتقده في كل من حولي.
مرت الأيام، وتحوّلت صداقتنا إلى شيءٍ أكبر، شيءٍ لا يُقال. كنت أشعر أنها تقرأني دون كلمات، وأنها تفهم ما لا أقوله. كنت أخبرها عن خوفي من الغد، وعن أحلامي المؤجلة، وعن تلك الوحدة التي ترافقني رغم الزحام. وكنت أجد في حضورها عزاءً لم أجد مثله في أحد.
لكن كما تعرف، الحكايات الجميلة لا تُكتب لتكتمل دائمًا. فالحياة – بطريقتها القاسية – تختار دائمًا اللحظة التي تظن أنك آمن فيها لتسلبك كل شيء.
في إحدى الليالي، تلقيت منها رسالة قصيرة:
"علاء... أحتاج أن أبتعد قليلًا. الظروف أقوى مني."
قرأت الرسالة مرارًا، ولم أفهم. حاولت الاتصال بها، لكنها لم تجب. ذهبت إلى مقر عملها، فقيل لي إنها استقالت قبل أيام. اختفت كأنها لم تكن.
ومنذ تلك الليلة، بدأت فصول الحزن في حياتي.
لم أعد أرى للحياة طعمًا. كانت المقاعد التي جلسنا عليها، والمقاهي التي زرناها، والطرقات التي مشينا فيها، كلها تذكرني بها. كنت أراها في كل فتاةٍ تضحك، وأسمع صوتها في كل أغنية حزينة.
ذات مساء، جلست أكتب في دفتري كلمات لم أكن أعلم لمن أوجهها، لكنني كتبتها كأنها رسالة إلى روحي:
ألاسفٌ يرافقني، والظروف لم تخترني،
وقلبي يعتذر بصمتٍ، فالقدر كان أقوى مني.
تاهت الخطى في دربٍ، والحزن غطّى السماء،
ولم يكن بيدي تغييرٌ، فالأمر فوق طاقتي.
كل سطرٍ كنت أكتبه، كان يخرج من صدري كأنني أنزع به جزءًا من روحي.
مرت شهور وأنا أعيش بين العمل والصمت، بين الذكريات والأرق. كنت أتساءل كل يوم: هل يمكن أن يخوننا القدر دون سبب؟ هل يمكن أن نُعاقب على صدقنا؟
وفي أحد الأيام، بينما كنت أتناول قهوتي في مقهى صغير على النيل، سمعت صوتًا أعرفه جيدًا. رفعت رأسي، وكانت هي... ياسمين.
لم أصدق عيني. كانت مختلفة قليلاً، ملامحها أهدأ، لكن الحزن نفسه ما زال في عينيها.
اقتربت بخطواتٍ مترددة، وقالت بصوتٍ مبحوح:
– علاء... لم أتوقع أن أراك هنا.
لم أستطع الرد. فقط نظرت إليها طويلاً، كأنني أستعيد سنوات من الغياب في لحظة. ثم قلت بهدوء:
– اختفيتِ كأنك لم تكوني.
جلست أمامي بصمت، ثم أطرقت رأسها قائلة:
– الظروف خانتني يا علاء، صدقني لم أختفِ بإرادتي.
ترددت قليلًا، ثم أضافت:
– والدي مرض فجأة، واضطررت للسفر للعلاج، وبعدها... تغيرت أشياء كثيرة. لم أكن أستطيع العودة كما كنت.
كنت أنصت إليها، لكن في داخلي شيء ما كان ينكسر من جديد. لم ألومها، لكنني شعرت بأن ما بيننا لم يعد كما كان.
قلت لها:
– كنت أظن أننا سنواجه كل شيء معًا.
فابتسمت بأسى وقالت:
– أحيانًا يا علاء، لا يكون الحب كافيًا ليُبقي الناس معًا.
تلك الجملة ظلت ترنّ في أذني طويلاً بعد أن افترقنا. عدت إلى بيتي تلك الليلة مثقلًا كمن يحمل عمرًا من التعب. جلست أكتب من جديد، كأنني أحاول أن أجد في الكتابة خلاصًا:
لكنّ الندم في قلبي، يلوح كنجمةٍ،
وألاسفٌ يهمس في الأفق، أنني لم أختر هذا المصير.
في كل لحظةٍ أعيشها، أرى أثر ما كان،
والظروف قد خانتني وقادتني، إلى ما ليس بيدي التحكم فيه.
كنت أكتب ودموعي تبلل الورق، كأنها تمحو كل ما تبقّى مني.
ومرت الأيام بعدها بطيئة، ثقيلة كألمٍ لا يزول. صرت أتجنب الأماكن التي كنا فيها، وأخاف من الأغاني التي كانت تجمعنا.
وفي إحدى الليالي، تلقيت منها رسالة جديدة:
"علاء، سامحني إن كنت قد تركت فيك جرحًا لا يلتئم. لم أختر الغياب، لكن القدر اختار لي. أتمنى أن تجد من يستحقك كما لم أستطع أنا."
تلك الرسالة كانت كخنجرٍ في صدري، لكنها أيضًا كانت الدرس الأخير الذي علّمتني إياه ياسمين.
في تلك اللحظة، كتبت آخر كلماتي لها:
فأحمل في قلبي أسفاً، كحملٍ ثقيل،
وأمضي في دروبٍ لا خيار لي فيها.
أملٌ يلوح في الأفق، رغم الألم والندم،
وعزائي أن الظروف قد حكمت،
وأنا ما كنتُ سوى طيفٍ في هذا المسار.
مرت سنوات، ولم أعد ذلك الشاب الذي كان يظن أن الحب يكفي ليُغير العالم. صرت أكثر هدوءًا، أكثر تفهمًا لقسوة القدر. لكن شيئًا واحدًا لم يتغير... صوتها ما زال يزورني في أحلامي.
أحيانًا أسمعها تقول:
"وفي طيّاتِ هذا الأسف، أجد درباً للغفران،
وعهداً بأن لا أنساك رغم الألم والمحن."
حين أستيقظ من تلك الأحلام، أبتسم رغم الدموع. أدرك أن الحب الحقيقي لا ينتهي بالفراق، بل يتشكل فينا كجزءٍ من ذاكرتنا الأبدية.
وذات يوم، تلقيت رسالة من صديق قديم يخبرني أن ياسمين سافرت إلى بلدٍ آخر، وأنها تزوجت. لم أشعر بالغيرة أو الغضب، بل بالسكينة. أدركت أن كلًّا منا مضى في طريقه الذي رسمه له القدر، وأن ما بيننا لم يكن خطأ، بل كان تجربة علّمتنا كيف نحب، وكيف نخسر بكرامة.
في تلك الليلة كتبت في مذكرتي الأخيرة عنها:
وربما في يومٍ ما، يشرق نورٌ جديد،
ويأتي الفرج من بعد العتم، ويكون الفهم والرضا.
وفي كل خطوةٍ أخطوها، أجد قوةً في الصبر،
وعزيمةً وأتمنى أن لا يخونني عمري،
فالأسف يعلّمنا أن ننهض من جديد.
ومع كل حرفٍ كتبته، شعرت أن شيئًا في داخلي بدأ يشفى ببطء.
بعد أشهر، قررت أن أزور المكان الذي جمعني بها أول مرة — موقف الحافلات القديم. وقفت هناك، أنظر إلى المقاعد، إلى تلك الزاوية التي كانت تجلس فيها. كان كل شيء كما هو، إلا أنني لم أعد كما كنت.
رفعت رأسي إلى السماء وقلت بصوتٍ خافت:
– سامحيني يا ياسمين... فالدنيا كانت عليّ وليس معي.
ثم أضفت كأنني أحدث نفسي:
– سامحيني، فالحياة لم تكن تنمو معي، سامحيني، فأنا أعلم أكثر من أي أحد بما في القلب من حزنٍ وألم. سامحيني لأني أنا أيضًا أشعر أن الروح بدأت في الاستعداد أن تذهب من بين ضلوعي. سامحيني، فوالله الألم يعتصر القلب، في حزنٍ وألمٍ لا يُقال.
كانت الرياح تمرّ خفيفة على وجهي، كأنها تهمس لي أن الوقت قد حان لأغفر لنفسي أيضًا.
وفي طيّات هذا الألم، ينمو الأمل،
ففي كل نهايةٍ بداية، وفي كل أسفٍ حكمة،
وهكذا نضيء طريقنا، رغم كل ما مضى.
عدت إلى بيتي تلك الليلة مختلفًا. أدركت أن الحزن لا يزول، لكنه يتحول إلى وعي. وأن الحب الذي لم يكتمل، قد يكتمل بطريقةٍ أخرى، داخلنا نحن، حين نفهم معناه الحقيقي.
صرت أكثر ميلًا إلى الهدوء، أكثر حبًّا للتفاصيل الصغيرة التي كانت ياسمين تحبها. رائحة القهوة، غروب الشمس، صوت المطر، كلها أصبحت تذكرني بها لا كوجع، بل كذكرى جميلة من زمنٍ مضى.
ولأنني تعلمت أن الكتابة هي النافذة التي تفتح روحي على السماء، بدأت أكتب روايتي الأولى. كانت بعنوان "حين خذلتني الحياة"، وكنت أروي فيها قصتي معها. كتبتها لا لأحزن، بل لأتصالح مع الماضي.
حين انتهيت منها، شعرت أنني ولدت من جديد. كتبت في آخر صفحة منها:
"ياسمين... لم يكن ذنبك أنك أحببتني، ولا ذنبي أني صدّقت أن الحب ينتصر دائمًا. لكننا على الأقل، أحببنا بصدق، وخسرنا بكرامة، وتعلمنا أن نُكمل الطريق رغم وجعنا."
وأغلقت الدفتر، وضعت عليه وردة جافة كانت بين أوراق كتابها الذي تركته ذات يوم عندي، وابتسمت.
في تلك اللحظة، فهمت أنني لم أخسرها تمامًا، بل أصبحت جزءًا من كل ما أنا عليه الآن.
لقد خذلتني الحياة، نعم، لكنها أيضًا منحتني ما لم أكن لأعرفه بدونها: قيمة الحب، ووجع الفقد، وجمال الغفران.
وهكذا، انتهت حكايتنا، لا كما أردت، بل كما أراد الله أن تكون.
ومهما طال الزمان، ستظل ياسمين هي الصفحة التي كتبت فيها أول حروفي الصادقة، والدمعة التي نضج بها قلبي.
فى النهاية "حين خذلتني الحياة"، لم أكن أعلم أن الخذلان يمكن أن يكون بابًا للنور.
واليوم، حين أنظر إلى الماضي، لا أرى خسارتي، بل أرى الطريق الذي أوصلني إلى نفسي.
لقد سامحتها، وسامحت القدر، وربما ذات مساءٍ بعيد، ستقرأ كلماتي وتبتسم، كما أبتسم أنا الآن.


تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.