حين انتهينا ولم ينتهِ الحب – قصة مؤثرة عن الفقد والعودة إلى الذات

Admin
0

لم أكن أعرف أن النهاية قد تأتي على هيئة صمت، لا ضجيج فيها ولا دموع، فقط فراغ يمتد بيني وبينه حتى صار الهواء نفسه يضيق علينا حين نتنفس. كنت أظن أننا سنموت معًا حين يفترق قلبانا، لكن الحقيقة أن الموت لم يزرنا؛ بل تركنا أحياء لنتعذّب بفقدٍ لا يموت.

حين انتهينا ولم ينتهِ الحب – قصة مؤثرة عن الفقد والعودة إلى الذات

كان يحب أن يسافر، يقول إن في السفر مساحة للهروب، بينما كنت أكره الرحيل لأنني كنت أراه نوعًا من الخيانة، لا للوطن فقط، بل للذين ينتظرون خلف الأبواب المغلقة. كنت أنتظره مثل صلاة لم يؤذن لها بعد. أضع اسمه بين أصابعي وأتلوه كأنني أستدعي حضورًا غائبًا عن الوعي.

كان كل شيء بيننا يبدأ ببطء، كما لو أننا نخطو فوق أرض تخشى أن تنكسر، لكننا كنا نعرف أن النهاية قادمة. فقط كنا نؤجلها خوفًا من لحظة الانطفاء.

في تلك الليلة التي رحل فيها، ترك ورقة على الطاولة لم تحمل سوى ثلاث كلمات: "سامحيني... أنا انتهيت."
قرأت الجملة عشرات المرات حتى صار صوتها يملأ الغرفة، ثم أدركت أنها ليست مجرد اعتذار، بل إعلان رسمي لوفاة الحب.

مرت الأيام، لكنني لم أستطع دفنه. كلما حاولت، عاد في شكل ذكرى صغيرة، في رائحة كتاب كان يقرأه، في ظل على الحائط يشبه قامته، في نغمة هاتف تذكرني بنبرة صوته وهو يقول اسمي للمرة الأولى.

صرت أعيش بين الحياة والموت، لا أنتمي لأيٍّ منهما. أعمل في الصباح، أبتسم للناس، أضحك في الاجتماعات، ثم أعود إلى وحدتي لأخلع كل الأقنعة، وأتحدث إلى الفراغ كأنني ما زلت معه.


في إحدى الليالي، فتحت دفتري القديم، ذاك الذي كنت أكتب فيه كل ما لم أستطع قوله له. وبين الصفحات المهترئة وجدت رسالة لم أذكر أنني كتبتها من قبل، كانت تبدأ هكذا:

**"نحن من انتهى وليس الطريق، حين أشهرنا الحب في وجه قلبين مهزومين.
لا أحد يحب تلك النهاية، دخول القفص ونهاية أنه ليس من الذهب، بل هو الوحدة المصنوعة من فولاذ الانتظار.
ينطلق هو حرًّا نحو الأفق، يغرس بذور العشق هنا وهناك بمنطلق أنه شاعر يحتاج الانطلاق.
وهي كذلك تخبئ له خلف تلك القضبان حياة ضنكى إذا فكر يومًا بالعودة دون أن يغتسل من وحل الخطايا.
أنه من اغتال الحب البريء بعد ولادته بيومين، ونسِيَ أن يغتالها هي بعده.
غطاها بوشاح اسمه ورحل...
نحن من انتهى وليست الحياة.
أعيش كما لو أنني حيّة أُرزق، والموت يتلبسني مثل قطة خائفة من الماء.
قال لي ذات مرة إنه يريدني، ولم أعيَ مفهوم السؤال حين ألقيت له قلبي دون أن أرى أنه يريد فتح باب التيه.
حمله بين يديه مثل طفل لم يعد يتنفس، ألقته أمه في عرين الأسد لتنقذ زوجًا ميت الإحساس.
لا يعرف برد شتاء تسلل إلى الغرفة جاء بصوت نوافذ ترتعد تشكوه للحنين حين جعلته مثواها الأخير مفروشًا بأمل العودة.
قلق يتربص الفرح عند الباب.
نحن من انتهى مثل امرأة كثيرة التذمر، تعشق الحلاوة حين تسقيها من ارتجاف الشوق في العيون، خائفتين من عشيقة تنتظره خلف الباب.
الليلة لن تنام بين ذراعيه، استنشقت عطر زوجته العالق بين عنقه حين احتضنها ليطفئ غضب الغياب.
كاد يخنقها حين جاء غصّة لفشل ذريع، مدّ لها يده، يتزاحم الخوف في مقلتيها.
إنها لا تجيد اللعب بالمشاعر، بل تعشق فن التملك.
كان أضعف من أن يحتويها، وكانت أضعف من أن تنقذ ما تبقّى منها.
من بين حقيبة كتبه المنسية، لم تكن سوى صوت امرأة يعلق بقاياها على حبل غسيل حين يكوي قصيدته المبللة بعطر العفة، والأخرى يعرضها مثل لوحة رسمها بخمر العشق الأسود حين ضاع في الطريق.
يتجول بين محطات السفر ليكتب روائع من قصائد غزل لم يكن يعرف معناها.
كان آخر سطر فيها: نحن من انتهى وليس الحب..."


حين انتهيت من قراءة الرسالة، شعرت وكأنني قرأت نعيي بيدي. لم أعرف كيف كتبتها ولا متى، لكنني تذكرت تلك الليالي التي كنت أكتب فيها على عجل كمن يحاول إنقاذ قلبه من الغرق.

كانت تلك الكلمات مرآة لما كنت عليه: امرأة معلقة بين الذاكرة والخذلان، تحاول أن تبرر لحبٍ مات بطريقة تليق بالشعراء، لا بالبشر العاديين.

بدأت أستعيد صورًا كنت أحاول نسيانها، تلك المرات التي كان يرحل فيها دون وداع، وحين يعود يحمل أعذارًا جاهزة لا تشبه الندم. كنت أصدّقه دائمًا، لا لأنني كنت غبية، بل لأنني كنت أحتاج أن أصدق.

كنت أريده أن يكون حقيقيًا ولو لمرة، أن يلتفت إليّ حين أنهار، أن يراني لا كأنثى تنتظر، بل كإنسان يختنق من طول الصبر.

لكن الحقيقة أنني كنت مجرد فصل من روايته، جزء صغير من حكاياته التي لا تنتهي. أما أنا، فكنت أكتب رواية واحدة فقط: اسمه.

مرّ عام كامل منذ رحيله، لكن شيئًا لم يتغير.
ما زلت أراه في أحلامي، وأسمع صوته في الصمت، وأشعر بأنفاسه تسكن الأماكن التي لم يزرها أحد بعده.
حتى رسائله التي كان يكتبها لي بخط مرتجف، ما زالت على الطاولة. لم أجرؤ على حرقها، كأنني أخاف أن تحترق معها بقاياي.

في كل مرة أفتحها، أكتشف أنني لا أقرأ كلماته، بل أقرأ نفسي كما كنت حين كنت معه: امرأة نصفها أمل، ونصفها رماد.

في مساءٍ متعب، وبينما كنت أجلس على شرفة الغرفة، وصلتني رسالة قصيرة من رقم لا أعرفه، تقول:
"هل ما زلتِ تكتبين عني؟"

تجمدت أناملي. لم يكن هناك اسم، لكنني عرفت.
ذلك الأسلوب لا يُخطئه القلب، تلك النبرة التي كانت تذيبني وتقتلني في آنٍ واحد.
لم أجب. فقط فتحت دفتري وكتبت:

"نعم، أكتب عنك، لا لأنني أشتاق، بل لأن الكتابة آخر طريقة لأحيا دون أن أنهار."

مرت الأيام، ولم تصل رسالة أخرى. لكنني شعرت أن صمته هذه المرة لم يكن هروبًا، بل ختامًا. ختام يليق بحكاية لم تعرف كيف تنجو.

بدأت أتعلم الحياة من جديد. أشتري الزهور لنفسي، أضحك من قلبٍ كان حزينًا طويلاً، وأرتب غرفتي كأنني أستعد لاستقبال شخصٍ جديد، لكنه ليس هو.

كنت أظن أن النسيان خيانة، لكنني اكتشفت أنه نجاة.
أن التمسك بالماضي لا يُبقي الحب، بل يُميت الروح ببطء.

الليلة، أغلقت آخر صفحة من دفتري القديم، وضعت عليه غلافًا جديدًا وكتبت بخطٍ واضح:
"حين انتهينا ولم ينتهِ الحب."

لم أكتبها لأتذكره، بل لأتذكر نفسي حين كنتُ معه، حين كنت أعيش بنصف قلب وأحلم بنصف حياة.

رفعت رأسي نحو السماء، وقلت لنفسي:
"ربما انتهينا نحن، لكن الحب الذي عشته كان كافيًا ليعلّمني كيف أعود إليّ."

ثم ابتسمت، لأول مرة، دون خوفٍ من العودة.

قسم

إرسال تعليق

0 تعليقات

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.

إرسال تعليق (0)
3/related/default