العيون ودهشة الجمال في خمار الليل

رحلة شعرية تنطلق من لحظة كشف الليل عن وجه القمر، لتقود روح العاشق بين سماوات العيون حيث الهيام، والانعتاق، وسحرٌ لا يشبه شيئًا على الأرض.

العيون ودهشة الجمال في خمار الليل

في اللحظةِ التي تتهيّأ فيها الروحُ للبوح،
وتتخفّفُ من ثقلِ الأيام كمن يخلعُ درعًا من حديد،
هتفَ في داخلي نداءٌ خافت،
يشبهُ أولَ خفقةٍ لطيـرٍ وجد أجنحته بعد عمرٍ من العجز،
فمدَدتُ بصري إلى الأفق،
أبحثُ عن شيءٍ يشبهني…
عن نورٍ يوقظُ ما مات في الزوايا المنسيّة من قلبي.

وبينما أُحاول أن أنصتَ لخطواتِ الصمت،
وإذا بالمشهدِ يتبدلُ كما لو أن العالمَ أنفاسُ ساحرٍ ماهر،
فلمّا أزاحتْ خمارَ الليلِ عن وجهِ القمر،
انبثقَ الضياءُ من حافةِ السماء كابتسامةٍ خجولة،
ورأيتُ بعينَيَّ عينينِ تدعواني للسفر،
عينين لا تشبهان شيئًا في الأرض،
ولا يمكن أن تُنسبا لامرأةٍ من لحمٍ وعطرٍ وحضور،
بل لأسطورةٍ تمشي على هيئة امرأة،
أسطورةٍ تعرفُ كيف تُشعل النجوم وكيف تُطفئها بالرمش.

تقدّمتُ إليها بخطواتٍ لا أملكُ منها شيئًا،
كأنّ قلبي هو الآمر وأنا الجسدُ المنقاد،
وحين رفعتْ رأسها قليلًا،
تبدّت تلك السماوات التي حلّقتُ فيها لأبعدِ مدى،
سماواتٌ لم تُخلق للطيور،
بل خُلقت للقلوب التي ضلّت الطريق فعادت ببوصلتها نحو العيون.

وفي سماواتِ عينيها كم يحلو السفر،
كم يحلو التيهُ فيها،
كم يحلو أن أفقدَ اسمي وذاكرتي وحدودي،
كم يحلو أن أتخفّى خلف ظلٍّ منها،
وأترك للعالم أن يبحث عنّي فلا يجد سوى عطري العالق في أهدابها.

وحين اقتربتُ أكثر،
رأيتُ كحلَ جفنيها أسكرهُ الجمالُ حتى بدا الليلُ نفسهُ تابعًا لسطوته،
فأسكرَ قلبي حينَ إليه نظر،
ولستُ أذكرُ بعد تلك اللحظة شيئًا يشبه الوعي،
بل انطفأ داخلي الإنسانُ،
وولد شاعرٌ جديد من دهشةٍ ما زالت حتى الآن
تُقيمُ في صدري ولا تنام.

وما إن تنفّستُ قربها،
حتى طفقتْ روحي تدورُ في أفلاكها
كما يدورُ صوفيٌّ مسَّهُ الهيامُ حدَّ الخدر،
لا يدري أهو في الأرض أم في السماء،
أهو يمشي أم يُحلق،
أهو يلهجُ باسمها أم باسم الله…
فثمةَ شيءٌ فيها يفتحُ أبواب الخشوع،
يوصلُ العاشقَ بالملكوت،
ويُسقطُ من يدِ العقلِ كلَّ أوراقه.

كنتُ كلما اقتربتُ منها خطوة،
ابتعدتُ عن الدنيا آلاف الخطوات،
فهي ليست امرأةً يمكن للوقتِ أن يقيسها،
ولا للغة أن تُحيط بها،
ولا للأوصاف أن تسجنها في كلمات،
إنها فضاء…
والفضاءُ لا يمكن احتواؤه.

وبينما أنا تائهٌ في بريقها،
شعرتُ بأنّ شيئًا ما دلفَ بروحي إلى دنيا الانعتاق،
ثم جرّني إلى طرقٍ
لم يطأها أحدٌ قبلي،
أماكنَ لم يصلها من قبلُ بشر،
فأيقنتُ حينها أنّ الحبَّ ليس فكرةً تُشرح،
بل بابًا إذا فتح…
غمرت العاشقَ عوالمٌ تتجاوزُ حدودَ إدراكه.

كنتُ أسمعُ نبضها كما تُسمعُ موسيقى خُلقَت للروح،
تعلو عندما أقترب،
وتهدأ عندما أغيب عن الضوء الطالع من وجهها.
كنتُ أرى في كلّ التفاتةٍ منها
عهدًا جديدًا بالدهشة،
وأرى في كلّ رمشةٍ
عمرًا يمرُّ من غير أن أشعر.

ولم يكن الليلُ ليلًا وهي واقفة،
ولم يكن القمرُ قمرًا إلا بين وجنتيها،
حتى الريح كانت تتلعثم،
وكأنها تخشى أن تُربك ترتيب شعرها،
أو أن تؤذي النسمة العالقة بين كتفيها.

وحين ابتسمت…
انطفأت كلُّ الحروب في داخلي،
وتلاشت ذكرياتي القديمة،
وكأنني أُخلق الآن بين يديها،
وأعلنُ ولائي لخطوها،
وأتخلى عن كل طرقاتي القديمة،
لأسير وراءها بلا خرائط،
فهي الطريق…
وهي الحضور…
وهي الغاية.

وقفتُ أمامها مدهوشًا من كل شيء،
من أنوثتها التي لا تُجيد التظاهر،
ومن هدوئها الذي يشبه صلاةَ فجرٍ
لم يمسّها أحدٌ غير الملائكة،
ومن جمالها الذي يربكُ المعاني
حتى تكادُ اللغة تسقط من التعب.

ولمّا رفعت يدها قليلًا،
شعرتُ بأنّ الزمن يتهيّأ للانحناء،
وبأنّ الكون يتجمّع في تلك اللمحة،
وبأنّ المسافة بيني وبينها
لم تعد مسافةً،
بل قدرٌ يتشكّل على هيئة امرأة.

عندها فقط،
أدركتُ أنّ الحبَّ ليس نجمةً في السماء،
بل امرأةٌ واحدة
إذا نظرتْ إليك…
أضاءتْ عتمتك،
وإذا ابتسمت…
أزهرت روحك،
وإذا غابت…
تركَتْك معلّقًا بين الحياة والعدم.

وهكذا بقيتُ في حضرتها،
أحملُ دهشتي بين يدي،
وأردد في سرّي:
ما دمتُ حيًّا…
فأنا مسافرٌ في عينيها،
عائدٌ إلى نفسي عبرها،
مقيمٌ في ضوئها إلى آخر عُمرٍ يمنحني اللهُ إياه.

سحر العيون
بواسطة : سحر العيون
أكتب وأعبّر عن أفكاري ومشاعري من خلال القصص والقصائد، أستوحي إلهامي من تفاصيل الحياة والخيال. أكتب لألامس القلوب وأثير التأمل في المعاني الإنسانية. أؤمن بأن الكلمة قوة قادرة على التغيير والإلهام، وأجد في الكتابة عالمي الذي أتنفس فيه الإبداع.
تعليقات



    🅰