قلب لم ينسَ حبيبته | قصيدة

قصيدة تمتد بين أروقة الذاكرة ووهج الحنين، تكشف اعترافات قلبٍ لم يستطع النسيان، وتُعيد صوت الحبيبة إلى المدى كما لو أنها لم ترحل يوماً.

قلب لم ينسَ حبيبته

كان الليلُ يتهادى على نافذتي، يسكب سكونه على الطرقات الجائعة للضوء،
وأجلسُ وحدي، أُقلب في دفاتر القلب ما تبقى من حكاياها،
ألمسُ بحروفٍ مرتجفة آثارَ الأيام التي تركتها على صدري،
فكل نبضة لا تزال تُقسم أن الطريق إليها ما زال ممتداً،
ولو أن العمر انكسر في منتصف الرحلة.

كنتُ كلما حاولتُ أن أبدو قوياً أمام السؤال،
ينفلتُ من شفتي اعترافٌ عجزتُ عن حجبه…
ويسألوني هل نسيتها وتجاوزتها؟
فأجيب: (لا)،
وكيف أنسى من غرستُ اسمها في ضلوعي كأقدس سرّ؟
ذاك السؤال، يا صديقي، لم يعد يشبه الأسئلة،
بل صار جرحاً يتجدد كلما حاولتُ إخفاءه.

كيف أنسى من كانت تلتف حول قلبي كوشاحٍ من نور؟
كيف أُطفئ نار هواها وقد عاشت على جمري دهور؟
كانت لي وطناً حين ضاق كل وطن،
وكانت ظلاً حين جفّت ظلال العالم فوق رأسي،
وكنتُ كلما ضللتُ الطريق،
احتضنتني من بعيد بابتسامتها التي لا تموت.

وما زلتُ، حتى الآن،
أسمع في المدى صوتها كأن الرياح تمرّ على صدري بنداها،
تنفض الغبار عن روحي،
وتعيد ترتيب فوضاي بصوتٍ أعرفه كما أعرف نفسي.
ذلك الصوت لم يغادرني،
بل يسري في جنباتي كما يسري الماء في شقوق الصخر العطش.

وفي ليالٍ كثيرة،
كانت تطلّ على عينيّ إذا غاب القمر،
كأنها نجمة اختارت أن تقترب من ظلمتي،
فتوقظ في داخلي نار رؤياها،
تُحرك فيّ كل شيء حاولت دفنه،
وتعيدني إلى بداياتٍ كنتُ أحسبني تجاوزتها.

يا ليت قلبي يطيع العقل حين أمرته
أن يُطفئ نار الشوق وأن يطوي صداها،
لكن القلب — كما تعلّمنا —
ليس سجينَ حكمٍ ولا عبدَ منطق،
إنه طفلٌ عنيد،
يُمسك بيد ذكرى واحدة ويأبى أن يفلتها،
وكلما حاولتُ إقناعه بأن يمضي،
ازداد تعلقاً، وكأن الفراق يجعل الحنين أكثر جاذبية.

كم ليلةٍ قلتُ له فيها:
“كن شجاعاً، واهدأ… لقد انتهى كل شيء”،
فيبتسم بسخريةٍ موجعة،
ويعيد إلى رأسي وجهها كما لو أنه يعاقبني.
والحقيقة، يا صديقي، أنه ما عاد يسمع،
فقد صار ملكاً لها،
ومتيماً بها،
ولم ينساها، ولن يفعل…
حتى لو ادّعيتُ القوة أمام الناس.

وإن مرّ عمري كلّه في غياب ابتسامتها،
فإني أعيش بهواها ولأجل ذكراها،
فذكراها ليست مجرد صورة تُعلق على جدار،
بل حياةٌ كاملة،
ومدى واسعٌ يختبئ داخله كل ما تبقى من قلبي.

أحياناً أستلقي فوق سطور الليل،
وأكتبها كما لو أن الكتابة صلاة،
أخاف إن توقفتُ عنها أن تتلاشى صورتها،
فتنطفئ آخر شمعة في صدري.
وأحياناً أخرى أُحدّث الغيم عنها،
أقول له:
احمل إليها ما تبقى من كلماتي،
وأخبرها أنني ما زلتُ أفتقد الخطوة التي كانت توقظ الأرض،
والضحكة التي كانت تشبه المطر حين يأتي بغتةً.

أخبرها أنني ما زلت أرى العالم بعينيها،
ولو اختفت من حياتي،
فإن الأشياء لا تزال تحتفظ بلونها الذي أحبته،
والأماكن لا تزال تردد وقع قدميها،
وكأن الأرض — مثل قلبي — لم تستطع أن تنساها.

أخبرها أنني أجلس كثيراً عند النافذة،
أتأمل الشمس وهي تمشي ببطء،
وأقول لنفسي:
لو كانت هنا لقالت جملةً صغيرة،
تغيّر مزاج الكون كله.
ولو كانت هنا،
لما شعرتُ أن الصباح ناقص،
ولا أن المساء متعب،
ولا أن العالم بلا صوت.

يا الله…
كيف للقلب أن يحمل كل هذا؟
وكيف للإنسان أن يعيش نصف حياة
بعد أن يفقد نصفه الآخر؟

ومع ذلك،
ها أنا أحيا…
أتنفس،
أمضي،
أتظاهر بأنني تجاوزت،
وأكذب على نفسي كما يكذب السائح على الغربة،
لكن الحقيقة ثابتة…
ويسألوني هل نسيتها؟
وأكرر الإجابة ذاتها كل مرة: لا.
لم أنسها،
ولم أتجاوزها،
ولم أنجُ من حكايتها.

قد أكون تعلمتُ أن أختبئ،
أن أضع ابتسامة على فمي حين تضيق الدنيا،
لكنني لم أتعلم — ولن أتعلم —
كيف أقتل ذكرى وُلدت في عمق القلب،
وكبرت فيه،
وصارت امتداده.

وإن كان الحبُ في عرف الناس ضعفاً،
فهو عندي أقوى من كل فخر،
لأنه جعلني أرى نفسي،
أفهمها،
وأعرف كم يمكن لقلبٍ واحد أن يحمل من حياة.

ولذلك…
سأظل أكتبها،
وأحرس ظلها،
وأمنح الريح اسماً واحداً ليحمله في كل اتجاه:
اسمها هي…
التي ما زالت تسكن في ضلوعي،
توقظ نار هواها،
وتحرك المدى كله بصوتها،
وتعيد تشكيل الليل من جديد.

ولئن طال الغياب،
فأنا رجلٌ لا يخون ذاكرته،
ولا يخون قلبه،
ولا يخون امرأة أحبها ذات يومٍ بصدقٍ لا يتبدد.

سحر العيون
بواسطة : سحر العيون
أكتب وأعبّر عن أفكاري ومشاعري من خلال القصص والقصائد، أستوحي إلهامي من تفاصيل الحياة والخيال. أكتب لألامس القلوب وأثير التأمل في المعاني الإنسانية. أؤمن بأن الكلمة قوة قادرة على التغيير والإلهام، وأجد في الكتابة عالمي الذي أتنفس فيه الإبداع.
تعليقات



    🅰